حياة اللاجئين السورين في لبنان مأساة حقيقية من جوانب متعددة.. فاللاجئ السوري ممنوع عليه أن يعمل ويلتقط رغيف معيشته، وممنوع عليه أن يتنقل من منطقة إلى أخرى، إلا في حالات ضيقة.. أما المخيمات فتتعرض للمداهمات الدورية والاعتقالات المستمرة بتهمة الانتماء الافتراضي إلى ” منظمات إرهابية “.. وإذا ما شوهد لاجئ في الشارع أمام مسكنه بعد الساعة السابعة مساء، فدورية الشرطة ستلقي القبض عليه بتهمة مخالفة قرار منع التجول الذي لا يُطبّق إلا على السوريين فقط.. أما لاجئو عرسال فيعيشون في سجن مقفل بألف باب وباب، وممنوع على اللاجئين المقيمين في المناطق اللبنانية الأخرى أن يزوروا لاجئي عرسال إلا للنساء والأطفال فقط
ومع كل ذلك يمكن القول: إن اللاجئين قد اعتادوا على مثل هذه الأمور وتأقلموا مع هذا الواقع، ولكن الذي لم يعتادوا عليه ولم يتأقلموا معه بعد، أن لا يجدوا قبوراً لموتاهم فوق أرض لبنان إلا بشق النفس
هذه حقيقة وليست خيالاً، والأمثلة على ذلك كثيرة.. فحالات الموت مستمرة كل يوم وبأعداد لا يُستهان بها، نظراً لوجود أكثر من مليون لاجئ سوري في لبنان، وهذه مسألة طبيعية.. ولكن من غير الطبيعي أن لا يستطيع أهل الميت إيجاد قبور يدفنون فيها موتاهم..
هنا تكمن المشكلة التي تواجه اللاجئين عموماً، وتشكل لهم هاجساً مرعباً ومأساوياً بكافة المقاييس، فتكلفة تجهيز الميت، وثمن شراء المدفن وآجار حفر القبر تتراوح بين مئات الدولارات وصولاً إلى عدة آلاف، مع وجود حالات محدودة جداً لمدافن مجانية، وإلا فثمن القبور بالدولارات..
” مرآة سوريا ” عاينت هذه المشكلة الإنسانية المؤلمة، واطلعت على العديد من الحالات المحزنة، والمتعلقة بتأمين القبور للاجئين المتوفّين..
وهنا نذكر بعض الحالات على سبيل المثال، والتي يوجد العشرات شبيه لها في أماكن متفرقة:
ــ في إحدى البلدات البقاعية توجّه ذوو الميت إلى مقبرة البلدة لدفن ميتهم، فمُنعوا من ذلك.. انتقلوا به إلى قرية مجاورة، فتم منعهم أيضاً، ثم انتقلوا إلى قرية ثالثة، وبعد اتصالات مع بعض وجهاء القرية، وبعد أخذ ورد، تم الدفن بسلام..
ــ طفلة صدمتها سيارة في أحد المخيمات، وماتت.. وبحسب شاهد عيان، قام ذووها بدفنها في إحدى المقابر البعيدة، دون أن يراهم أحد.. في اليوم التالي جاء أفراد من القرية المجاورة للمخيم، وهددوا بفتح القبر وإخراج الجثة ورميها بعيداً، مبررين ذلك بأن البقعة التي دُفنت فيها الطفلة مخصصة لأفراد العائلة منذ أجيال، وكاد التهديد يتحول إلى تنفيذ، لولا تدخل شيخ القرية ومختارها، وعندئذ مرّ الأمر على خير..
أمام هذا الواقع المؤلم، اضطر بعض اللاجئين أن يدفنوا موتاهم بعيداً عن الأعين في أراض مشاعٍ نائية، ليست مخصصة للقبور، متخطين بذلك، كما يعلق أحدهم، البعدَ العاطفي والمعنوي والتخلي عن عادة زيارة قبور أمواتهم كما هو حال الناس أجمعين، فقد اضطروا لدفن ميتهم في أرض بعيدة نائية، وربما لم يتركوا علامة ما توحي بأن هذه البقعة الضيقة هي قبر لأحد الأموات اللاجئين “..
في منطقة طرابلس، وفي حديث مع ” مرآة سوريا ” قدم ” رضوان مطر ” الناشط الإنساني في مجال دفن الموتى ورعاية الجرحى بعض التفصيلات التي تزيد من عمق هذه المأساة الإنسانية التي يعاني منها اللاجئون السوريون، ويشرح لـ ” مرآة سوريا ” كم هي التكاليف التي يتوجب على أهل الميت دفعها، فيقول: المريض الذي يتوفى في المستشفى، يوضع في البراد، ومقابل ذلك يدفع ذووه 120 ألف ل.ل، بالإضافة لتكاليف المشفى، ثم يدفعون 150 دولاراً مقابل ” تغسيله ” وبعدها يبحثون عن شراء قبر في مقابر رخيصة، ومن أجل ذلك يضطرون إلى الانتقال بالميت من قرية إلى أخرى للبحث عن قبر رخيص “، ويضيف: أنا على اطلاع مستمر وحضرت العديد من حالات الدفن.. وأرخص قبر لا يقل ثمنه عن 300 دولار..
ثم يفيد رضوان: منذ عدة أيام ولدت امرأة من أقربائنا.. مات الطفل بعد عدة ساعات في المستشفى.. كان الوقت ليلاً، وأم الطفل الميت لا معين لها.. كنت أنا وزوجتي موجودين عند الأم، ولكي لا ندفع أجرة البراد في المستشفى، اضطررتُ أن أحمل الطفل وأنتظر حتى الصباح، ثم اخذناه إلى مقبره في طرابلس، يطلقون عليها ” مقبرة الغرباء ” ، وهناك دفناه بعد أن دفعنا التكاليف المطلوبة بمساعدة أهل الخير”..
وحادثة أخرى رواها رضوان لـ ” مرآة سوريا ” أنا أساهم برعاية الجرحى، أحدهم لم يستطع أن يدخل المشفى للمعالجة، فمات في بيتي لعدم توفر الدعم، واسمه ” عمار حسيان ” من القصير، وآخر قُطعت قدمه لعدم القدرة على دفع مصاريف العلاج، واسمه ” علي عرنوس”
ويتابع رضوان حديثه: مثل هذه المآسي تحدث يوماً بعد آخر، فقبل عدة أيام حدثت وفاة في طرابلس، اضطر ذوو الميت أن ينتقلوا به بعيداً مسافة ساعة ونصف بالسيارة، لكي لا يدفعوا تكاليف الدفن، فليس لهم ولا لغيرهم قدرة على ذلك..
هذه بعض المشاهد المؤلمة التي تحدث للاجئين السوريين في لبنان.. وتبقى المعاناة الكبرى والهم الأقسى في كيفية ستر جثامين الميتين السوريين تحت التراب.. وقد لمست المنظمات الإغاثية والإنسانية عمق هذه المأساة دون أن تستطيع حل هذه المشكلة عبر المساهمة بتوفير البدائل المناسبة، إلا في حالات فردية قليلة بالتعاون مع دوائر الأوقاف والجهات الدينية المعنية في مثل هذه الحالات..