الريف الشمالي..صراع الإرادات
تعد منطقة ريف حمص الشمالي آخر المعاقل القوية للمعارضة السورية المسلحة في محافظة حمص،وفيما يذهب العديد من المراقبين إلى أن “تفاهماً دولياً” هو الذي يمنع النظام من اجتياحها مقابل قطع الإمداد العسكري عن المجموعات المقاتلة ضده، فإن شخصيات عسكرية بارزة في المنطقة تؤكد أن النظام غير مستعد لدفع التكلفة البشرية العالية فيما لو حاول اقتحامها وهذا مايفسر فرضه حصاراً خانقاً عليها طيلة عامين بغية تركيع أهلها ودفعهم للاستسلام.
تضم المنطقة الخارجة عن سيطرة نظام الأسد تجمعاً كبيراً من الحواضر الريفية أهمها الرستن، تلبيسة والزعفرانة والغنطو والدار الكبيرة والسعن وعشرات القرى الصغيرة، ولم يختلف الحال فيها عن معظم المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة في سورية، فقد تنوعت الكتائب العسكرية المقاتلة من حيث انتمائها الفكري أو المناطقي ولكن لم يستطع أي فصيل عسكري أن يفرض سيطرته الكاملة على هذا الريف وذلك حتى قيام تنظيم الدولة بالسيطرة على قريتي دير فول و عز الدين شمال مدينة تلبيسة في بدايات العام 2014.
تتمدد:
شكلت تلك القرى القاعدة الصلبة للتنظيم في الريف الشمالي حيث امتد منها إلى بقية مناطقه شمالاً وشرقاً بما فيها مناطق تلول الحمر والقنيطرات وعيدون و بريغيت وصولاً إلى قرى الريف الحموي الجنوبي، كما وصلت مناطق سيطرته جنوباً إلى أطراف مدينتي تلبيسة و الرستن بالإضافة الى سيطرة التنظيم على طريق الإمداد الذي يصل المنطقة ككل بالأراضي المحررة شمالاً في إدلب و ريف حماة الشمالي .
صدامات فانسحاب:
خلال تلك الفترة قام التنظيم بملاحقة و إعدام عدد من كشافي الطرقات من أبناء القرى الواقعة على طريق الإمداد مما سبب حالة من الاحتقان لدى الأهالي تجاه مقاتليه، زادت بعدها الممارسات التي أظهرت نيته السيطرة على المنطقة واستهداف بقية المجموعات، وكان أخطر تلك الممارسات إقدام مجموعة من عناصر التنظيم في شهر حزيران الماضي على قتل أحد قيادات جبهة النصرة (أبو سليمان العكيدي) بعد توقيفه عند نقطة تفتيش تابعة لهم.
شكلت تلك الحادثة سابقة خطيرة على مستوى محافظة حمص حيث أن المحافظة كانت محيدة تماماً عن الصراع الطاحن بين جبهة النصرة وتنظيم الدولة والدائر في بقية المناطق السورية، كما أن (العكيدي) كان من الشخصيات المحبوبة لمختلف المقاتلين كونه من الشخصيات التي ثبتت في حصار حمص بالإضافة إلى علاقاته الواسعة مع الجميع، ولمنع انفجار الموقف شكلت فصائل مستقلة هيئة شرعية للبت في هذا الأمر، وبعد وساطات ومشاورات استمرت طيلة شهر تقريباً فاجأ تنظيم الدولة الجميع وقام بإخلاء مقراته شرقاً نحو منطقة عقيربات في نفس اليوم الذي كان مقرراً أن تنعقد فيه المحاكمة وذلك في أواخر شهر آب من العام 2014م.
أسباب وتبريرات:
شكلت تلك الحادثة السبب المباشر لخروج التنظيم، أما الأسباب الحقيقية كما يقول مراقبون فهي عدم رغبة التنظيم في البقاء ضمن منطقة محاصرة تحرمه الاستفادة من العنصر البشري المهاجر كما تحرمه من الإمداد العسكري واللوجستي. حيث أن هذا الحصار سوف يقلص من قدرته على مواجهة بقية الفصائل العسكرية التي أظهرت تبرمها من سلوكيات (الدولة) كقطع طرقات الإمداد واغتيال القادة كما في حالة جبهة النصرة بالإضافة لاغتيالهم قائد مجموعة ذات ثقل عسكري وعائلي في بلدة الغنطو وهو (عاصم صويص)، وغير ذلك من اشتباكات مع بعض المجموعات في مدينة الرستن.
أما المقربون من تنظيم الدولة فعللوا خروجه بإعادة ترتيب الأوراق ورص صفوف مقاتليه في المحيط الشرقي لحمص تمهيداً لعمل عسكري كبير لتحريرها وهذا مالم يتم حتى الآن.
ومن الجدير ذكره أنه وخلال خروج مقاتلي التنظيم من المنطقة وقع العديد منهم في كمائن نصبتها لهم قوات النظام ما أسفر عن خسارتهم لكثير من مقاتليهم وخصوصًا بالقرب من قرية المخرم الموالية.
خلايا نائمة:
رغم إعلان التنظيم رسمياً انسحابه من المنطقة في تلك الفترة، فإن أوساط النشطاء كانت تتحدث من حين لآخر عن “خلايا نائمة” خلفها التنظيم وراءه و”بيعات سرية” يأخذها ولاته من العديد من قادة المجموعات وخصوصاً تلك التي خرجت من حمص المحاصرة وتعرض أفرادها للجوع والتهميش من قبل الداعمين.
بيعات علنية لكن بدون إعلام!
في شهر كانون الأول من عام 2014م جرت حادثة هامة خلطت الأوراق في الريف الشمالي وأوقعت العديد من المراقبين في حيرة وعجز عن التفسير، فقد قام لواء أسود الإسلام التابع لفيلق الشام (هيئة حماية المدنيين) باعتقال ناصر النهار قائد تشكيل فيلق حمص خلال اشتباك مسلح أودى بأحد مرافقيه، وتلت عملية الاعتقال محاصرة مقرات الفيلق والاستيلاء على كميات من عتاده وأسلحته.
ومع أهمية عملية الاعتقال فإن الأهم هو أن قيادة لواء أسود الإسلام أعقبتها بإعلان البيعة لتنظيم الدولة ورفعت رايات التنظيم على مقراتها، والمفارقة أن كلا الفصيلين المشتبيكن سواء فيلق الشام أو فيلق حمص تحسب قياداتهما في الخارج على التيار المشيخي التقليدي في حمص وعلى تيار الإخوان المسلمين.
ورغم كل ماجرى فإن إعلام تنظيم الدولة الرسمي لم يعلن عن بيعة فصيل جديد له في المنطقة، ومن جهة أخرى فإن إعلام فيلق الشام (الإخواني) لم يعلق نهائياً على الحادث.
شائعات وخوف من الانهيار:
إثر تلك البيعة المثيرة للجدل، انتشر كم هائل من الإشاعات بين أهالي المنطقة عن أن معظم الفصائل قد بايعت التنظيم وانضمت له، ما سبب تخوفاً شديداً بين الأهالي كون ذلك الأمر يعني أن حرباً ضروساً بين جبهة النصرة وبين تنظيم الدولة ستندلع في المنطقة المنكوبة أساساً والتي تتربص قوات نظام الأسد لدخولها في أي لحظة.
التقاط الأنفاس:
سارعت القيادات العسكرية في المنطقة لنفي موضوع البيعات حرصاً على تماسك الجبهة الداخلية، ثم بدأت حركة من الوساطات لإطلاق سراح (ناصر النهار) وحلحلة المشاكل بين الفصائل التي اصطفت على جانبي النزاع بشكل مناطقي وعشائري بحت.
لم تقتصر الوساطات على الداخل فحسب، بل تدخلت شخصيات كبيرة في المعارضة السورية وخصوصاً من المحسوبين على الإخوان المسلمين حرصاً على عدم انتشار الأمر ووصوله إلى الداعمين نفياً للحرج، وفي نهاية المطاف أثمرت الوساطات الداخلية والخارجية عن إطلاق سراح (النهار) وعن تفاهم لدفع الديات لأهالي القتلى الذين سقطوا في الاشتباكات.
نظام الأسد يقدم خدمة للمقاتلين:
مما ساعد في سرعة تطويق الموقف، أن قوات الأسد حاولت استغلال ظرف انشغال الفصائل بموضوع البيعات وشنت بداية العام الحالي هجوماً عنيفاً على محاور الجبهة الغربية في الريف الشمالي بغية استرداد المناطق التي كان مقاتلو المعارضة قد حرروها في وقت سابق، رافق الهجوم قصف عنيف بمختلف أنواع الأسلحة على المدنيين في مدينتي تلبيسة والرستن، وكانت تلك الحملة العسكرية كفيلة بإعادة اصطفاف الفصائل وتوحدها الميداني تداركاً للوضع الآخذ في التأزم.
هدوء (الضرورة):
مع أن كل القيادات العسكرية لفصائل المعارضة المسلحة تعلم أن دخول تنظيم الدولة بشكل علني إلى منطقة الريف الشمالي يعني أنها أمام خيارين لا ثالث لهما إما البيعة أو القتال، فإن تعقيدات المنطقة تفرض على تلك القيادات نوعاً خاصاً من التعامل مع الفصائل التي تحسب نفسها الآن على تنظيم الدولة.
حصار نظام الأسد للمنطقة وضعف الإمداد العسكري والإغاثي والاصطفاف العشائري والمناطقي والفكري وغيرها من الظروف تجبر تلك القيادات على “ترحيل المشكلة” إلى المستقبل أو حتى تتغير معطيات الواقع في تلك المنطقة المنسية، والتي يؤكد الكثير من المحللين بالمقابل أن الوضع العسكري فيها وحولها يحدد بوصلة المجتمع الدولي تجاه سورية بالكامل.
“نرى ونتظاهر بأننا لانرى حتى يفرجها الله”…هذه الجملة قالها شاهد عيان من المنطقة رفض ذكر اسمه والتي علق فيها على رفع رايات تنظيم الدولة على بعض المقرات، تعبر باختصار عن الصراع المؤجل ولو إلى حين.