“الصمون” ليس مأكول السوريين
في مدينة قيصري التي تقع إلى الجنوب من العاصمة التركية أنقرة، وصل عدد السوريين إلى نحو 30 ألفًا، و ترافق ازدياد هذا العدد مع انتشار فعاليات تجاريّة سوريّة، تعنى بشكل خاص بتوفير المواد ذات المنشأ السوري أو الشبيهة به للاجئين في المدينة.
افتتحت المحال التجارية و دكاكين البقالة التي تقوم بجلب المواد الغذائية بشكل خاص من الأراضي السورية عبر طرق مختلفة، و من ثم بيعها للاجئين السوريين الذي يجدون فيها شيئًا من بلادهم التي اضطروا لتركها مع تصاعد العنف الدائر فيها منذ آذار/مارس 2011.
و لعلّ أبرز هذه المواد هو مادّة الخبز، الذي يتعيّن وجوده على طاولة الطعام السورية أيًا كان صنف الطعام فيها، إلا أن الخبز التركي يختلف عنه في سوريا، فالأتراك يعتمدون على “الصمون” الذي أجمع السوريون على أنّه لم يناسب وجباتهم و أسلوبهم الغذائي.
“مرآة سوريا” في قيصري التركية
“مرآة سوريا” تحرّت واقع الخبز في المدينة، فاصطدمت بعدد كبير من الشكاوي و الاتهامات المتبادلة بين اللاجئين المستهلكين للخبز في المدينة و بين أصحاب أفران الخبز السوري التي افتتحت خلال الأشهر الماضية لتلبية حاجة اللاجئ السوري من خبز “البلد”.
شكاوي اللاجئين و حنقهم على أصحاب الفرنين الوحيدين للخبز السوري في المدينة (فرن بارلاق و فرن نور الشام) ينطلق أولًا و آخرًا من ارتفاع سعر ربطة الخبز و تخبطه و عدم ثباته، مقارنة مع المحافظات التركية الأخرى التي يصنع فيها الخبز السوري أيضًا.
يبلغ وزن ربطة الخبز من 500 غرام إلى 1000 غرام، و تحوي الربطة الواحدة على 7-10 أرغفة، حسب وزنها و حجم الرغيف المعتمد من قبل الفرن المصنّع، و بيعت الربطة التي تحوي على 10 أرغفة بوزن 1000 غرام بسعر تراوح بين 1.75 إلى 3 ليرة تركية حسب ما ذكر اللاجئون في المدينة.
أصحاب المحال التجارية عمدوا قبل إنشاء الأفران في المدينة إلى جلب الخبز من المدن الأخرى و بشكل خاص “غازي عينتاب” و “أضنة”، و بيعت آنذاك الربطة الواحدة بسعر 3 ليرة تركية، ثم انخفضت إلى 2.5 ليرة تركية.
و بعد أن أنشئ فرنا المدينة أصبحت الربطة الواحدة تباع بنحو متخبّط، بسبب اتباع كل فرن على أسلوب المضاربة على الفرن الآخر بالسعر و النوعية، إلى أن توصل صاحباهما إلى صيغة حددوا فيها وزن و عدد أرغفة و سعر الربطة الواحدة، حيث أصبحت الربطة ذات وزن الكيلو غرام الواحد تباع بسعر 1.75 ليرة تركية إلى بائع المفرق متضمنة أجور توصيلها، و هنا بدأ اختلاف سعر المبيع لها بسبب عدم وجود رقم معين لبيعها لدى باعة المفرق، فبعضهم أصبح بيعها ب 2 ل.ت و بعضهم الآخر ب 2.25ل.ت.
اتهامات و شكاوى و تنوّع في الآراء
يتساءل “محمد تيت” مستغربًا و هو لاجئ سوري في قيصري:” تباع الربطة الواحدة في مدينتي “كلّس” و “غازي عينتاب” بسعر 1.25 ليرة تركية، فهل الطحين هناك أرخص من الطحين في قيصري؟!”.
في حين نفى “عبد الله عسكر” أن يكون سعرها كما قال “محمد تيت” و أكّد أنه يحصل على ربطة الخبز في مدينة “كلّس” بسعر 2 ليرة تركية، أي كما تباع حاليًا في قيصري، مع تأكيده على أنّ سعر انتاجها لا يتعدّى 1 ليرة تركية.
بينما اعتبر “طاهر سعيد” أنّ الأفران في قيصري تتبع أسلوب النصب و الاحتيال، مؤكدًا انخفاض سعر الربطة في باقي المحافظات التركية عما هو عليه في قيصري.
و تعجّب “عبد المؤمن طحّان” من عدم إخضاع الأفران في المدينة للالتزام بسعر محدد من قبل الحكومة التركية.
أمّا “محمد فاتح جمعة” فيطالب الناس بألا تنقلب إلى “شعبة تموين”، داعيًا إلى إفساح المجال أمام بائع المفرق ليبيع الربطة بالسعر الذي يجده مناسبًا، “فالأهمّ هو أنّ الأفران وحدت سعر المبيع لبائع المفرق”.
وقد استنكر “عبد الحميد العمر” أن يُترك بائع المفرق ليبيع الربطة بالسعر الذي يريد.
بينما اكتفى “خالد رسلان” بالقول:” هنالك بعض الناس لا يملكون ثمن ربطة الخبز”.
تصنيع الرغيف ليس بالأمر السهل
“مرآة سوريا” تحدّثت مطوّلًا مع السيد “مصطفى محمد ناصر” صاحب و مؤسس فرن “بارلاق” في المدينة، و الذي أكّد أنّ صناعة الخبز لا تتم بالسهولة التي يتخيّلها الناس، فسعر الطحين مرتفع نسبيًا حيث يدور عند رقم 1.2 ليرة تركية للكيلو الواحد، إضافة إلى أجور اليد العاملة في الفرن، و تكاليف التصنيع الأخرى من أجرة المكان المرتفعة، إلى أجور العمّال، إلى فواتير الوقود (الغاز) و الفواتير الأخرى.
و أضاف السيد “مصطفى” إلى المشكلات التي تواجه إنتاج الرغيف بسهولة، مشكلة قلّة الإنتاج بالنسبة لطاقة الفرن الإجمالية، و ذلك –كما أوضح- بسبب قلّة عدد السوريين في المدينة، و عدم تقبّل الكثير من المواطنين الأتراك لهذه المادّة بالرغم من كونها أقل سعرًا و أكثر صحّة، لأنّها تصنّع باستخدام الآلات بنسبة 100%.
و قال: “إن ترخيص الفرن لدى بلديّة المدينة، و لدى مديريّة الصحّة، و الضرائب الكثيرة التي تفرض عليه، و استيفائه لكافة الشروط القانونية و الصحيّة و المالية، يؤثر بشكل كبير على سعر الربطة”.
ماذا تغيّر؟!
وامتعض مدير فرن “بارلاق” من شكاوي المستهلكين السوريين، الذي كانوا قبل افتتاح الفرن يدفعون ثمن ربطة الخبز 3 ليرات تركية دون أن يشتكوا من ذلك أو تكون لديهم أية مشكلة حول السعر، و بعد افتتاح الفرنين في المدينة بيعت الربطة الواحدة بسعر 2.5 ليرة تركية لفترة محدودة بسبب ضعف الانتاج، و لم تسجل حينها أية شكاوي أيضًا.
و أضاف: “بعد زيادة كمية الانتاج، انخفض سعر الربطة الواحدة إلى 2 ليرة تركية، و لكن البقاليات و نقاط البيع اتبعت مبدأ “المضاربة بالأسعار” بسبب تعامل كل منها مع أحد الفرنين الموجودين، مع وجود خلاف بسيط بينهما”.
جشع بائعي المفرق أحد أسباب ارتفاع الأسعار
و عزا السيد “مصطفى” ارتفاع سعر الربطة في المدينة أكثر من باقي المدن إلى جشع بائعي المفرق في قيصري، فالفرن يبيعها لهم بسعر 1.75 ليرة تركية، إلا أن جشع البعض منهم يدفعهم لأن يقوموا ببيعها بهامش ربح كبير نسبيًا، بخلاف البائعين في باقي المحافظات الذين يرضون بهامش ربح 15 قرش أو 25 قرش بحسب البائع و نوعية الخبز أيضًا.
و أوضح أن هامش الربح بالنسبة لبائع المفرق في باقي المحافظات لا يتجاوز حاجز الـ 25 قرشًا للربطة الواحدة، بل إنه في معظم الأحيان لا يتعدّى 15 قرشًا، كما في “غازي عينتاب” و “مرسين” و “كهرمان مرعش” و “أنطاكية” حيث تباع الربطة للمستهلك بسعر ليرتين، ويكون البائع قد ربح 15-25 قرشًا فقط، أما الأسعار التي تكون دون ذلك فيقابلها انخفاض في النوعية أو الوزن أو عدد الأرغفة.
السوري يبيع الصمون المجاني و يشتري الخبز
و ذكر السيّد “مصطفى” أنّ اللاجئين يحصلون على مادة “الصمون” من بلدية المدينة مجانًا، و يقومون ببيعها للأفران التركية و يشترون بثمنها الخبز السوري، ملمّحًا إلى استهجانه من مطالبة السوريين بتخفيض أسعار الخبز.
و طرح أصحاب الفرنين على بلدية المدينة فكرة التعاقد معهما، بهدف توزيع الخبز السوري على السوريين بدلًا من “الصمون” الذي يوزّع عليهم مجانًا، إلا أنّ البلدية – كما أوضح السيد مصطفى- وضعت عددًا من العراقيل في مقدمتها أنّها متعاقدة أساسًا مع الأفران التركيّة، و أنّ السوريين هم ضيوف في المدينة و تسعى البلدية لـ “تعويدهم” على “الصمون” الذي يستهلكه المواطنون الأتراك، بالإضافة إلى أنّ عددًا من العائلات التركية الفقيرة من المدينة تستفيد من “الصمون” المجاني الذي يجري توزيعه.
حجج واهية
و لنتوصّل إلى الحقيقة بشكلٍ أدقّ، طرحنا الموضوع برمّته على أحد وجهاء اللاجئين السوريين في المدينة، و الذي يعنى بشؤونهم، و قد رفض كشف هويته، فقال إنه يقف بشكل كامل مع الناس ضد الأفران.
و استنكر “الحجج” الواهية التي وضعها أصحاب الأفران حول زيادة أسعار الخبز، مؤكدًا على أن سعر الطحين موحّد في كل المحافظات التركية، و كذلك موضوع الترخيص و الضرائب و تكلفة الوقود و تكاليف الإنتاج الأخرى، هي ذاتها و تكاد تكون متطابقة في كل المحافظات، و إنّ ذكر هذه الأمور ليس مبررًا أبدًا لرفع سعر الخبز الذي تباع الربطة منه فعليًا بسعر 1.25 إلى 1.5 و 1.75 ليرة تركية كحد أقصى في مراكز بيع المفرق بباقي المحافظات، بينما يعتمد أصحاب الأفران في المدينة على أسلوب “المنيّة” في خفض سعر الربطة إلى 1.75 ليرة تركية (تباع بهذا السعر لبائع المفرق الذي سيضيف إليها هامش ربح) و تحميل مسؤولية ارتفاع السعر على التكاليف تارة و على بائعي المفرق تارة أخرى.
و من الجدير ذكره أن مدينة قيصري استقبلت نحو 30 ألف لاجئ سوري منذ بدء الأزمة في سوريا في عام 2011، و هي تستقبل بشكل دوري أعدادًا متزايدة منهم، بعضهم افتتح مشاريع تجارية خاصّة، و بعضهم الآخر توجّه للعمل في المصانع و المعامل لإعالة عائلته، و قد قدمت بلدية المدينة تسهيلات و خدمات عديدة مجانية للعائلات السورية اللاجئة من قبيل توزيع فحم و حطب التدفئة، و الدراسة في المدارس و الجامعات الحكومية، بالإضافة إلى الاستفادة من خدمة المشافي الحكومية.