بكفين ارتسمت عليهما تجاعيد الزمن وآثار جروح وشقوق قديمة، يمسك الصومالي، نور أبوبكر، مطرقة كبيرة ويضرب بقوة قطعة حديد أخرجها لتوه من الموقد، ليحولها إلى أداة زراعية تفوق بجودتها نظيرتها المستوردة التي تغزو الأسواق المحلية في البلاد.
ويتشبث الستيني، أبوبكر، بحرفة الحدادة التقليدية التي ورثها عن والده وجده، رغم صعوبتها وخطرها، كونها مصدر رزقه الوحيد، وفي محاولة ليحافظ عليها من الاندثار في ظل التطورات السريعة التي شهدتها الصناعات المعدنية.
وفي زاوية بالهواء الطلق في سوق “وابري” وسط العاصمة مقديشو، يمارس أبوبكر ورفاقه يوميا حرفة الحدادة التي يعملون بها منذ نحو 20 عاما.
وتمتعت هذه المهنة بسنوات من الرخاء، لكنها تشهد حاليا تراجعا ملحوظا بسبب عزوف أصحابها عنها لقلة مردودها، واستيراد الصناعات المنزلية من الخارج وخاصة من الصين. ويقول أبوبكر “كانت الحدادة من أهم الحرف التي يعتمد عليها الإنسان في شتى مجالات الحياة اليومية، لكن بعد التطورات في صناعة المعادن اقتصرت الحرفة على أشخاص قلائل، وباتت مهددة بالانقراض”.
ويضيف “ورثت هذه المهنة عن أبي الذي ورثها بدوره عن جدي (..) إنها متعبة ومرهقة جدا، فهي تحتاج إلى مهارة فائقة وقوة وإرادة نظرا لثقل أدواتها وشدتها”.
حداد آخر في سوق وابري يدعى محمد شريف أحمد، تشكل هذه الحرفة مصدر رزقه وقوت أفراد أسرته السبعة.
ويبدأ شريف أحمد (57 عاما) منذ ساعات الصباح الباكر يوميا، عمله في إصلاح الأدوات المعدنية المنزلية أو الزراعية المتعطلة مقابل ثمن زهيد.
وعرف الإنسان مهنة الحدادة منذ اكتشاف الحديد والنار، حيث كانت المصدر الوحيد لتوفير الأدوات الزراعية والأواني المنزلية.
وعزف معظم أبناء الرجل الصومالي عن حرفة الحدادة التقليدية، لما تشكله من متاعب ومخاطر، باستثناء نجله البكر الذي يشكل عونا له، خاصة عند تشكيل التصاميم المعدنية التي تتطلب قدرات شبابية فائقة، لم تعد تتوفر لديه. وتمر عملية صناعة الأدوات المعدنية أو إعادة إصلاحها بمراحل عدة تبدأ بإشعال الفحم الحجري في موقد خاص حتى يتحول إلى جمرات، توضع بينها قطع الحديد المراد تشكيلها حتى تحمر، ليتم بعد ذلك تثبيتها على جسم حديدي وإعادة تشكيلها باستخدام مطرقة قوية. الشابة ياسمين جيلاني (27 عاما)، تقول، وهي تنتظر إصلاح الحداد لأوانيها المنزلية المعدنية، “نجلب الأدوات المنزلية المعطلة (السكاكين والأواني) إلى هنا لإعادة إصلاحها بدلا من شراء أدوات جديدة باهظة الثمن”.
ومضت تقول “الأمر ليس فقط إعادة إصلاح الأدوات المعطلة، بل ونشتري أحيانا أدوات من صناعة هؤلاء الحدادين، فمنتجاتهم تضاهي تلك المستوردة من الخارج من حيث السعر والجودة”.
ورغم جهودهم الفردية والصعوبات التي تنطوي عليها هذه المهنة وغياب دعم الجهات المعنية للمهن الحرفية، وللحفاظ على الأيادي العاملة في إنتاج صناعاتهم المتوارثة ومنعها من الاندثار، مازالت منتجات الحدادين التقليديين مثل السكاكين والأدوات الزراعية والمنزلية والخناجر والسواطير، تلقى رواجا في الأسواق المحلية. وتقول مريمة نور (33 عاما)، بائعة منتجات الحدادين التقليديين، “رغم قلة منتجاتهم إلا أنها تجد مكانا في السوق، حيث تفضل الأسر الصومالية بعض منتجاتهم على الأدوات المستوردة، نظرا لسعرها المناسب وجودتها العالية”.
وحول امتهان هذه الحرفة في قبيلة صومالية معينة، قال أوغاس أحمد نور، الخبير في التقاليد الصومالية، إن “هذه المهنة رغم أهميتها وامتدادها إلى عصور موغلة في التاريخ، إلا أن أبناء قبيلة تمال، التي تعاني من التهميش الاجتماعي، هم من يمتهنونها”.
ويضيف أحمد نور “القبائل الأخرى في الصومال تعتبر هذه المهنة وضيعة ودنيئة، وهذه الفكرة حولها هي مجرد قناعة خاطئة ترسخت في عقول بعض الصوماليين”.
العرب