تفكيك المشهد السوري
تحولات الموقف التركي تجاه الثورة السورية
المرحلة الأولى: من الصداقة إلى العداء
لا يزال حزب العدالة والتنمية مستمراً في حكم تركيا منذ قبل الثورة السورية وحتى هذه الأوقات، ويستدعي ذلك أن تكون السياسة التركية مستقرة ومحددٌ فيها سلم الأولويات بوضوح، وقد قام بذلك بالفعل أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية ورئيس الوزراء السابق من خلال كتابه الشهير “العمق الاستراتيجي”.
مرت السياسة التركية تجاه الثورة السورية بمراحل وتطورات متعددة، ولكنها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف تموز/يوليو 2016، شهدت تطورات متسارعة جعلت من مخاوف الناشطين والمعارضين السوريين من انقلاب الموقف التركي رأساً على عقب مفهومة ومشروعة.
يمكن تقسيم التحولات في الموقف التركي لعدة مراحل، والمرحلة الأولى تبدأ مع اندلاع الثورة السورية وتنتهي مع زيارة وزير الخارجية آنذاك “أحمد داوود أوغلو” لدمشق والتي أفضت لقطيعة نهائية بين البلدين على المستوى الرسمي منذ ذلك الوقت.
ربطت بين الحكومتين التركية والسورية قبل الثورة علاقات وثيقة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتم فتح الحدود بين البلدين لتدفق البضائع والأشخاص بحرية، وتمظهر ذلك في علاقات خاصة وحميمة بين عائلتي أردوغان والأسد.
لا بد من طرح تساؤل هام حول الدوافع الحقيقية لقيام أردوغان بدعم الثورة السورية والتحول لعداء الأسد صديقه الحميم، فليس من المعقول أن تكون العوامل الإنسانية والعاطفية عاملاً مهماً أو حاسماً في عالم السياسة المتخم بالمصالح فقط، وكانت تصريحات أردوغان النارية ضد النظام تدغدغ مشاعر السوريين وعواطفهم بقوة وتجعل منه بطلاً في نظر الكثير من السوريين.
سارعت تركيا منذ الشهر الثاني للثورة لإنشاء مخيمات قريباً من الحدود السورية مجهزة لاستقبال لاجئين مفترضين هاربين من نظام الأسد، وكانت تلك الخطوة مثار استغراب وقتها حول أسبابها الخفية لأن الأمور في سورية لم تكن تشير لتوقع حركة لجوء كثيفة خارج البلاد.
الملامح الأساسية للموقف التركي في هذه المرحلة يتمثل بالمعطيات التالية:
_ لم تقم بالإعلان عن عداوة أو قطيعة نهائية مع النظام، بل تركت الباب موارباً أمام احتمالات العودة عبر قبول النظام بإصلاحات سياسية حقيقية.
_ أبقت الحدود مفتوحة أمام اللاجئين والذين يستطيعون عبور الحدود بين البلدين لأن المعابر كانت لا تزال وقتها تحت سيطرة النظام .
_ عملت للتركيز بشكل كبير على موضوع اللاجئين عبر وسائل الإعلام المختلفة والتي كانت تظهر حسن الاستقبال والتعاطف التركي الرسمي والشعبي معهم والمعاملة الجيدة لهم من الجنود الأتراك، مما ساهم بخلق صورة نمطية بقيت مؤثرة بشكل ثابت في أذهان جمهور الثورة السورية فيما بعد وتمثلت تلك الصورة بالشعور الدائم بان تركيا قدمت للشعب السوري أكثر مما قدمته الدول الأخرى.
_ بدأت بتقديم بعض أنواع الدعم العسكري واللوجيستي الخفيف وبشكل غير معلن لفصائل مسلحة بدأت تتصدى لمواجهة قوات النظام والتي كانت تزيد من قسوة وعنف تعاملها مع استمرار فشلها في التصدي للثورة السورية.
_ لم تقم بالدفع بأي قوات تركية للعمل أو التدخل المباشر لصالح أي طرف ضمن الأراضي السورية وبأي طريقة كانت.
_ تدفق المعارضون السوريون التقليديون لنظام الأسد بعد اندلاع الثورة من كل أصقاع الأرض إلى تركيا، والتي فتحت أبوابها أمامهم وأعطتهم حرية الحركة والتنقل والاجتماع حيث انطلقوا في مشاورات للعمل على إسقاط النظام، وكان ذلك يجري تحت أنظار أجهزة الأمن التركية، وكان تواجد المعارضين من تيارات الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان المسلمين كبيراً ومؤثراً، و ساعدهم على ذلك حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي، وكانت تركيا ترمي للإمساك بالملف السوري من خلالهم، وقدمت قطر دعماً قوياً لتلك المساعي التركية والتي أدت في النهاية لهيمنة الإخوان المسلمين على قرارات وتوجهات المعارضة السورية، ما سبب قوعها لاحقاً في حالة استقطاب وانقسامات شديدة باستمرار إضافة إلى الفشل في صياغة وثيقة عمل وطني جامعة، وإلصاق التوجهات الدينية بالمعارضة، وإبراز عوامل إضافية من الانقسامات الدينية والقومية في صفوفها.
وتحولت تركيا لمركز قوة ونفوذ للإخوان المسلمين، وربما كان الرهان التركي عليهم فقط من بين قوى المعارضة من بين الأسباب التي أدت لفشل المعارضة السياسية وانسداد الأفق أمامها باستمرار وعدم قدرتها على تحويل عملها لطابع مؤسساتي شفاف بصبغة وطنية جامعة.
عمل تركيا المؤسس بشكل مباشر أو غير مباشر للمعارضة السورية كان من الأسباب المؤدية لمقتلها في النهاية.
_ كانت تركيا تراقب بدقة وحذر شديد تطورات المشهد السوري واحتمالات تأثيره على الأمن القومي من الناحية القومية عبر الملف الكردي ومن الناحية الطائفية عبر ملف العلويين في تركيا، كانت تريد ضبط إيقاع المشهد السوري في هذين الملفين ومنع انتقال أي تأثيرات محتملة تضر بالأمن القومي التركي، وبقي ذلك الهاجس الموجه الرئيسي للسياسة التركية في سورية على الدوام.
_ حاول أردوغان بداية تجنب الصدام المباشر مع المعارضة التركية القوية التي كانت رافضة لمواقفه الداعمة للثورة، لكنه عمل بحذر حتى تخطى الانتخابات النيابية بنجاح في صيف 2011 ومن ثم عاد من جديد للتحرك بحرية أكبر، كان الملف الداخلي نقطة ضعف أردوغان الكبيرة باستمرار خلال سنوات الثورة السورية وهو يخشى من تداعيات أي تصرف أحادي الجانب يقوم به في سورية على شعبيته داخل تركيا وخسارته مقاليد الحكم .
بالعودة لزيارة أوغلو الشهيرة لدمشق والتي جرت في 10 أب عام 2011 والمصادف للعاشر من رمضان كذلك، فقد شكلت مفصلاً في العلاقات بين تركيا والنظام السوري حيث أدت لقطيعة نهائية بينهما بعد شهر عسل طويل، تلك الزيارة الخاطفة عاد بعدها أوغلو سريعاً إلى تركيا بشكل دراماتيكي بعد لقاء عاصف مع الأسد وبدون أن ينتظر حتى تناول طعام الإفطار في دمشق، ولا تزال الكثير من الأسرار والخفايا تكتنف تلك الزيارة.
ماذا يتضمن مشروع الحل الذي قدمه أوغلو للنظام ؟ ولماذا رفض الأسد ذلك الحل جملة وتفصيلاً ولم يقبل الخوض فيه أو النقاش حوله ؟
قد يكون أوغلو رغم مظهره الهادئ قد مارس نوعاً من التعالي والفوقية خلال تقديم المشروع، و ربما كان المشروع يحتوي بنوداً لا يستطيع الأسد قبولها وسط مراكز القوى المحيطة به، وقد يكون الدور الإيراني قوياً منذ البداية ولكن بشكل غير ظاهر أو معلن.
بكل الأحوال تناسى الجميع المبادرة سريعاً، ولا يمكن تصور كيف قام أوغلو ذلك السياسي المحنك بقطع آخر شعرة لتركيا مع النظام، ما جعل المبادرة تبدو أقرب لإنذار تركي للنظام أكثر منها محاولة لتقديم حل حقيقي.
وبالفعل فإن ما تم معرفته عن المبادرة كان شروطاً ومطالب تركية، حيث طلب أوغلو من النظام القيام بإصلاحات سياسية شاملة وأن يتم استبعاد ماهر الأسد كرجل عسكري، بمعنى تحميله وزر أفعال الجيش السوري الوحشية ومعه رامي مخلوف وتحميله مسؤولية الفساد الواسع في البلاد، على أن تقوم تركيا بتقديم كافة أنواع الدعم والمساندة للنظام بعد تحقيق ذلك.
أعلن أوغلو فور وصوله تركيا فشل مبادرته بشكل كامل ولم يترك أي مجال للمناورة أو ينتظر إعطاء فرصة للنظام للتفاوض حولها، رغم أن رامي مخلوف وكجزء من استجابة النظام لمبادرة أوغلو ظهر في مؤتمر صحفي نادر الحدوث ليعلن توقفه عن الأعمال التجارية وتحويل المؤسسات التي يمتلكها للعمل الخيري وبغض النظر عن عدم مصداقية النظام إلا أن الجانب التركي قدم مبادرته للنظام للقبول بها كسلة واحدة فقط ولم يستمر في نقاشها أو التفاوض حولها وربما ستكشف الأيام حقيقة ما حصل.
لا يمكن تفسير انقطاع العلاقات بين النظام وتركيا بشكل نهائي بناء على الجانب الإنساني فقط ، كما لا يمكن تحميل الجانب التركي وحده مسؤولية حصول ذلك، ويبقى السؤال الذي ليس له جواب إلى الوقت الحالي على الأقل: لم رفض الأسد المبادرة التركية؟ حتى بافتراض قساوة طرحها ومضمونها وهو بحاجة لحليف خارجي قوي في ذلك الوقت الذي كان فيه منهكاً!.
بالمقابل تعامل تركيا منذ البداية مع الملف السوري لا يظهر براءتها بقدر ما يؤكد أنها كانت تسعى لتحقيق مكاسب بطرق مختلفة.
يتبع..
جميع الدراسات و الأبحاث المنشورة تعبر عن رأي كتّابها و المراكز التي أعدّتها و لا تعبر بالضرورة عن رأي “مرآة سوريا”