وصل سعر صرف العملة التركية السابقة قبل استبدالها لمستويات متدنية جداً بحيث أن الليرة الواحدة في العملة الجديدة تعادل مليونًا من العملة القديمة، و تم تحديد سعر صرف الليرة الجديدة مطلع عام 2005 بما يعادل 0,7 من الدولار أو ما يعادل 0,5 يورو وقتها ويعكس ذلك المعدل المرتفع للصرف واقع النمو المتسارع في الاقتصاد التركي في ظل استقرار سياسي شهدته البلاد ترافق وقتها مع موافقة الاتحاد الأوروبي على بدء المفاوضات لانضمام تركيا وقبول صندوق النقد الدولي بتقديم القروض لها.
تم إصدار العملة الجديدة بإلغاء ستة أصفار من العملة القديمة بحيث باتت الليرة الجديدة تعادل مليونًا من القديمة، وكان التدني الشديد للعملة التركية يجعل الأتراك يشعرون بالحرج الشديد لأن عملتهم باتت مصدراً للتندر لدى الغير لأن حساب ثمن سلعة ما كان يحتاج لآلة حاسبة، ويصل لأرقام فلكية رغم قيمته الضئيلة.
جاء صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا وسط ظروف استقرار جيدة داخلياً وإقليمياً ولم يفوت الاستفادة من تلك الظروف حيث قام بتحسين علاقاته بشكل كبير مع دول الجوار ومنها سورية على وجه الخصوص التي أقام معها علاقات استراتيجية، وفي المقابل شهدت تركيا إصلاحات اقتصادية واسعة تمثلت بجملة تسهيلات وإعفاءات لرجال الأعمال والمستثمرين، كما أنه تم تحرير الاقتصاد وتحويله نحو الليبرالية بشكل واسع عبر إلغاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية وتقليص دور القطاع العام.
تم ضخ استثمارات واسعة داخلية وخارجية في تركيا ضمن فترة قصيرة نسبياً وشهد النمو الاقتصادي معدلات مرتفعة غير مسبوقة، وباتت تركيا عضواً ضمن نادي مجموعة الدول العشرين الأكبر اقتصاداً في العالم وقامت بعد ذلك بتسديد كافة ديونها لصندوق النقد الدولي وتحولت لإقراض صندوق النقد الدولي ربما في إشارة لتحررها من تبعات تاريخية أثقلت كاهلها على الدوام لأن تراكم الديون بشكل ضخم على تركيا أفضى في النهاية لجعلها لقمة سائغة بيد الغرب.
رغم حصول عمليات تراجع مستمرة على سعر صرف الليرة التركية إلا أن ذلك كان يعزى لأسباب اقتصادية بحتة لا تؤثر سلباً على الاقتصاد بل إن بعض الاقتصاديين كان يرى أن تخفيض الليرة بحدود مقبولة يساعد على تنشيط حركة الاقتصاد التركي وعمليات التصدير للخارج.
“جاء صعود حزب العدالة والتنمية للسلطة في تركيا وسط ظروف استقرار جيدة داخلياً وإقليمياً ولم يفوت الاستفادة من تلك الظروف حيث قام بتحسين علاقاته بشكل كبير مع دول الجوار ومنها سورية على وجه الخصوص”
لم يكن يخفى على حكومة العدالة والتنمية أن المحافظة على اقتصاد قوي ترتبط بشكل أساسي بالاستقرار السياسي ومن أجل هذا قامت بالفعل بجملة من الحوارات الداخلية مع مكونات الشعب التركي العرقية والدينية وقدمت الحكومة جملة من الإصلاحات في هذا الخصوص، وانتهى ذلك باتفاق مصالحة تاريخي مشهود مع الأكراد، ولكن تفاصيل تلك الصورة الجميلة بدأت تنعكس ووصلت في النهاية لذلك المشهد الدراماتيكي الذي يطلب فيه الرئيس التركي أردوغان من الشعب التركي تحويل أصوله المالية للعملة التركية من أجل وقف تدهورها الكبير، كيف وصلت تركيا لهذه النتائج الكارثية ومن المسؤول ؟
1- الاستقرار السياسي الداخلي: وقفت الحكومة التركية منذ البداية إلى جانب ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد واستطاعت تجاوز مواقف المعارضة التركية الرافضة لذلك وتغلبت على عقدة الأكراد المستعصية عبر إعلان مبادرة سلام ودخول ممثلين للأكراد لمجلس النواب بتمثيل تجاوز العشرة في المائة، وكل ذلك كان يصب في خانة تكريس الاستقرار السياسي الذي تم تهديده بشكل خطير وبشكل غير مسبوق وصل أخيراً لقيام محاولة انقلاب عسكري انتهت بالفشل.
لم تتضح بعد الأسباب الحقيقية لانسحاب السياسي المحنك أحمد داوود أوغلو من الحياة السياسية وتخليه عن منصب رئيس الوزراء بشكل مفاجئ وإن كانت الأسباب المعروفة متعلقة بسعي أردوغان لإجراء تعديلات دستورية واسعة وجعل نظام الحكم في البلاد رئاسي مناسب لشخصيته ومقاسه.
أشعل سعي أردوغان للهيمنة على السلطة موجة من الانتقادات الواسعة داخلياً وخارجياً وباتت هناك مخاوف حقيقية واعتراضات حتى لدى مؤيديه بانعكاسات سلبية لطموحاته الشخصية الواسعة، وبدأ الاستقرار السياسي في البلاد يتعرض لهزات كبيرة، حيث انهار اتفاق السلام مع الأكراد بشكل كامل وتحولت الخلافات بين حزب العدالة والتنمية وجماعة الخدمة التابعة لفتح الله غولن تأخذ منحى الصراع الحاد حيث قرر أردوغان تصفية الجماعة ومؤسساتها بشكل كامل بسبب امتداداتها الواسعة ضمن الدولة التركية لكن تجاوز أردوغان لكل تلك الضغوط دفع العسكر للقيام بمحاولة انقلابية للتخلص منه.
لا شك أن المشهد السياسي الداخلي في تركيا بات معقداً بشكل كبير ولا يمكن تجاوز المأزق مع استمرار أردوغان في السلطة وتكريس نفسه سلطاناً للبلاد وستشهد البلاد تحالفات سياسية جديدة في محاولة لحل المأزق المستفحل.
“على الصعيد الخارجي فقدت تركيا سياستها المتوازنة التي رسمها أوغلو بإتقان عبر تصفير المشاكل مع دول الجوار، بات التخبط والتراجع في المواقف التركية الخارجية تجاه ملفات المنطقة وخاصة الملف السوري واضحاً للعيان في محاولة لعدم انتقال الفشل السياسي الخارجي للساحة الداخلية وباتت تركيا في موقف ضعيف خارجياً.”
على الصعيد الخارجي فقدت تركيا سياستها المتوازنة التي رسمها أوغلو بإتقان عبر تصفير المشاكل مع دول الجوار، بات التخبط والتراجع في المواقف التركية الخارجية تجاه ملفات المنطقة وخاصة الملف السوري واضحاً للعيان في محاولة لعدم انتقال الفشل السياسي الخارجي للساحة الداخلية وباتت تركيا في موقف ضعيف خارجياً.
أجواء عدم الاستقرار السياسي التي تعيشها تركيا انعكست بشكل مباشر اقتصادياً وبدأ مسلسل انهيار الليرة التركية، لكن الانهيار الأخير السريع والمفاجئ يخفي في طياته الكثير ويبدو أنه ليس حدثاً طارئاً بل سيكون له امتدادات سياسية داخلية خطيرة وربما يكون ما جرى مجرد رسالة لما يمكن أن تتعرض له تركيا في حالة استمرارها في مواجهة خارجية مباشرة مع أمريكا وأوروبا وروسيا وإيران والنظام السوري وحكومة العراق، ومواجهة داخلية مع المعارضة والأكراد وجماعة فتح الله غولن وحتى ضمن صفوف العدالة والتنمية نفسه، ولا يمكن أن نشهد تحسن سعر صرف الليرة من جديد قبل إنهاء حالات المواجهة الواسعة.
2- طبيعة الاقتصاد التركي: تتنوع فعاليات الاقتصاد التركي بشكل كبير بين صناعية وزراعية وسياحية وتجارية، لكنه خسر الكثير لتوقف تجارة الترانزيت مع الخليج عبر سورية، كما خسر القطاع السياحي الكثير بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والعمليات الإرهابية في البلاد، إضافة لاستمرار حالة الحرب ضد الأكراد في جنوب شرق البلاد على وجه الخصوص.
هناك مخاطر حقيقية تهدد الاقتصاد التركي بسبب الإنفاق الكبير على مشاريع الخدمات العامة وبزمن قياسي جعل البلاد تتحول لصورة جميلة بالفعل، كما أن قطاع البناء يساهم بنسبة كبيرة من الناتج القومي وهو ما يؤدي في حالة الركود وأجواء عدم الاستقرار وتوقف الاستثمار لخسارة واسعة في الأصول العقارية تؤدي لانهيارات مصرفية خطيرة.
هل من سبيل لتجاوز الأزمة بعيداً عن لغة العواطف والنداءات للمواطنين الأتراك التي أطلقها أردوغان؟ نعم بلا شك يمكن ذلك في حال توفر الإرادة والفعل ورغم أن الأتراك أدرى بشعابهم إلا أنه يمكن القول:
في الملف الداخلي :
_ انسحاب أردوغان من المشهد السياسي التركي تدريجياً والحفاظ على النظام البرلماني في البلاد.
_ تخفيف حالة الاحتقان الداخلي وخاصة مع جماعة فتح الله غولن والسعي للتقارب من جديد مع بعض قياداتها القريبة للعدالة والتنمية ومحاولة إعادة رؤوس الأموال الضخمة التي سحبتها الجماعة من البلاد.
_ إحياء حالة الحوار الوطني في البلاد مع مكونات الشعب التركي القومية والدينية المختلفة.
_ السعي لإيجاد مصالحة شاملة مع الأكراد.
_ العمل على عدم معاقبة رجال الأعمال بسبب مواقفهم السياسية.
_ ترسيخ قيم الجمهورية التركية ومبادئ الحريات العامة في البلاد.
لا شك أن الاستقرار السياسي الداخلي يعطي القوة والدفع في العلاقات السياسية الخارجية مما يدفع بالاقتصاد ومعدلات النمو إلى الأمام وبالتالي العودة للتحكم بسعر صرف الليرة من جديد.
انهارت الليرة التركية لأسباب سياسية داخلية وخارجية ويجب معالجة تلك الأسباب بادئ ذي بدء.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي “مرآة سوريا”