يعلل الكثير من العلماء ضرورة الاستمرار في العمل عند التقدم في السن بأهمية الحفاظ على الحركة والنشاط البدني والفكري والذهني. ويرون في الوظيفة المكان الأفضل لإثبات الذات وتحقيق الثقة في النفس، وأثبتوا أن من يراه البعض روتينا قاتلا يصبح بمثابة برنامج محفز يعزز حماس من يتقدم بهم العمر ويحافظ على صحتهم وتوازنهم.
ونقلا عن شبكة بي بي سي البريطانية، حثت كبيرة المسؤولين في القطاع الطبي بإنكلترا، سالي ديفيز، من تتراوح أعمارهم بين 50 و70 عاما على الاستمرار في العمل من أجل الحفاظ على صحتهم.
وقالت ديفيز إنه “لا يجب الاستخفاف” بالفوائد البدنية والذهنية للعمل أو المشاركة في أنشطة تطوعية. وأكدت أن العمل يساعد الناس على الشعور بالرضا ويقلل الإحساس بالوحدة.
وقالت ديفيز “الناس يعيشون الآن لفترات أطول من السابق والتقاعد يوفر فرصة لمن ولدوا في فترة طفرة المواليد (بين عامي 1946 و1964) كي يصبحوا أكثر نشاطا من ذي قبل”.
وتابعت “البقاء في العمل أو التطوع أو المشاركة في مجموعة مجتمعية، يمكن أن يحفظ للناس نشاطهم الجسدي والذهني لفترة أطول. ولا تجب الاستهانة بالفوائد الصحية لهذه الممارسات”.
ويقول الباحث البارز البروفسور كولن مكنزي، أستاذ الاقتصاد في جامعة كيو في طوكيو، “العمل يؤدي إلى شحذ نشاط الدماغ ويساعد في المحافظة على قيام الدماغ بعمله بالنسبة إلى كبار السن من العاملين. لكن في الوقت ذاته، يمكن للعمل لساعات طويلة أن يؤدي إلى الإرهاق، والتعب الجسدي أو النفسي أو كليهما معاً ويؤثر سلباً على قيام الذهن بوظائفه”.
بحسب مكنزي، يبدأ “ذكاؤنا السائل” والذي يعبر عن مدى قدرتنا على التعامل مع المعلومات بكفاءة، في التراجع في سن العشرين، في حين أن “الذكاء المتبلور”، والذي يعبر عن القدرة على استخدام المهارات والمعرفة والخبرة، يتراجع في سن الثلاثين.
ويضيف مكنزي أنه بالوصول إلى سن الأربعين، يكون أداء غالبية الناس ضعيفا في اختبارات الذاكرة ونماذج التعرف على الأشياء وتمارين السرعة الذهنية.
وبينما قررت عدة بلدان رفع سن التقاعد فيها، لتأخير موعد تلقي الناس لمستحقاتهم التقاعدية، فإن ما توصل إليه مكنزي في مجال الإرهاق الذهني يعتبر مهما جدا.
التقاعد يوفر فرصة لمن ولدوا في فترة طفرة المواليد (بين عامي 1946 و1964) كي يصبحوا أكثر نشاطا من ذي قبل
ويقول في هذا الصدد “العمل يمكن أن يكون سيفا ذا حدين: فمن ناحية، بإمكانه تحفيز نشاط الدماغ، ولكن في نفس الوقت، يؤدي العمل لساعات طويلة وأداء أنواع معينة من المهام إلى الإرهاق والشعور بالضغط والتوتر وبالتالي يضر بالتفكير والذكاء”.
قد أشارت دراسات سابقة إلى أن الموظفين من مختلف الأعمار الذين يشتغلون وقتاً إضافيا قد يشتكون من الأمراض الذهنية والإرهاق المستديم، وضعف الذاكرة. وتوصلت دراسة نشرت عام 1996 في كلية الصحة العامة في جامعة بوسطن إلى أن العمل الإضافي له آثار ضارة على الصحة الذهنية للموظفين في صناعة السيارات، وخاصة من يعملون على خط التجميع في المصنع.
ووجه الاختلاف في البحث الذي أجراه مكنزي هو أن فريق الباحثين معه توصلوا إلى أن مشكلات متعلقة بالصحة والذاكرة يمكن أن تظهر في وقت مبكر أكثر مما كان يُعتقد في السابق، أي أنها قد تظهر لدى أولئك الموظفين الذين تجاوزوا سن الأربعين، ويعملون بنظام الساعات المنتظمة وليس لأوقات إضافية.
ويؤثر التوتر على عمل الذاكرة بشكل أساسي من خلال الهرمونات، وخاصة هرمونات الستيريود، وهرمون التوتر كورتيسول، الموجودين في الدماغ واللذين يمكن أن يؤثرا على الذاكرة قصيرة المدى، والتركيز، والتفكير العقلاني، ودرجة الخمول.
وينظر مكنزي وفريقه الآن إلى دوافع مثل ما يسمى “سنوات الساندويتش” عندما يكون لدى الكثير من الناس شخص واحد على الأقل للعناية به، سواء كان طفلا أو أحد الوالدين الطاعنين في السن، بالإضافة إلى العمل بدوام كامل. وتعمل بيني إيفانز، البالغة من العمر 50 عاما، وهي مستشارة للسياسات في مؤسسة خيرية في لندن، أربعة أيام في الأسبوع حاليا، لكنها اعتادت أن تعمل 25 ساعة في الأسبوع في المؤسسة الخيرية ذاتها.
وترى إيفانز أن لكل من العمل لثلاثة أيام (25 ساعة في الأسبوع) والعمل لأربعة أيام سلبيات وإيجابيات. وتوضح ذلك بالقول “ثلاثة أيام في الأسبوع شيء جيد لتحقيق التوازن في الحياة بين العمل والمسؤوليات الأخرى وخاصة إذا كان لديك أطفال في البيت”.
وكانت دراسة ألمانية قد أظهرت تراجع الحماس في العمل لدى الموظفين الشباب في ألمانيا مقارنة بالموظفين الأكبر سنا. ووفقا لدراسة العمل لعام 2015، أوضح 26 بالمئة فقط من الموظفين الشباب الأقل من 20 عاما أنهم “متحمسون للغاية” للعمل، وزادت هذه النسبة بين الموظفين الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و30 عاما لتصل إلى 32 بالمئة.
وفي المقابل أوضح 40 بالمئة من الموظفين كبار السن البالغة أعمارهم 61 عاما أو أكثر أنهم “متحمسون للغاية” للعمل. جاء ذلك في دراسة أجراها معهد أبحاث السوق “فاليد ريسرش” وشملت 2212 موظفا في ألمانيا. وبشكل عام أوضح 34 بالمئة من إجمالي الموظفين الذين خضعوا للدراسة أنهم “متحمسون للغاية”، واكتفى 50 بالمئة منهم بتوصيف حالتهم في العمل بأنهم “متحمسون”. وعلى الرغم من تراجع الحماس لدى أغلب الموظفين الشباب في ألمانيا، فإن الدراسة أظهرت أنهم “راضون بشكل عام” عن عملهم.
وبلغت نسبة الراضين عن عملهم 61 بالمئة بين الموظفين الذين تقل أعمارهم عن 20 عاما، فيما بلغت نسبة الراضين عن عملهم بين الموظفين الذين تزيد أعمارهم على 61 عاما، 68 بالمئة. وتراجعت هذه النسبة إلى 50 بالمئة بين الموظفين الذين تتراوح أعمارهم بين 31 و40 عاما.