تحوي المجموعة القصصية “فانتازيات اللهو بين السحر والحكاية”، للكاتب السوري علاء رشيدي، داخلها خصائص فنيّة تجعلها أكثر حيويّة وقدرة على خلخلة آليات التلقي التقليديّة لدى القارئ.
وفي هذه المجموعة يتابع رشيدي محاولاته لاختبار بنية القصة القصيرة وإمكانية انفتاحها على التجريب، فبعد كتابه الأول “اللعبة الأخيرة قبل فرض القواعد” الذي يقارب فيه رشيدي اللعب ومفهومه السابق على النظام الاجتماعي، نراه في كتابه الثاني يلجأ إلى السحر، بوصفه عالما غرائبيا مخالفا لـ”المنطق”، إذ يعمل في المجموعة القصصية الجديدة على الاستفادة من تقنيات السحر ومفاهيمه لسرد حكايات مختلفة تستمد كل منها جمالياتها وعلامة تجنيسها من نوع السحر الذي اختاره رشيدي مسبقا.
الحكاية كمسرح للعب
فانتازيات اللهو هي دعوة إلى المتعة، لتذوق اللذة في عملية السرد واكتشاف جماليات التجريب القصصي المتماسك، لكن بعكس الساحر الذي يخفي خداعه، رشيدي يكشف كل تقنياته، إذ يوضح طبيعة الكتاب والفنون السحريّة التي استمد منها التقنيات السردية في كل نصّ، رشيدي لا يدعو القارئ إلى التحديّ، بل إلى الانغماس كليّا في متعة “القراءة”، ففي الغلاف الخلفي للكتاب نقرأ أنواع عروض السحر الجماهيرية التي اعتمدها رشيدي وطبيعة علاقاتها مع الحواس، وعلى أساس هذه العروض نراه يختار التقنيّة من جهة والحكاية كمادة أوليّة من جهة أخرى.
النص الأول المستمد من عروض التخاطر نراه مجنّسا بقصة، تتخللها نصوص من تاريخ الأدب ككاليغولا لألبير كامو، أو من مونولوجات متخيّلة ابتدعها رشيدي نفسه، ليكون التساؤل عن هوية الراوي، فهي مصممة بطريقة يحاول فيها القارئ كما الساحر، أن يكتشف من هو الراوي، وما الذي يضمره في عقله، وتتابع هذه الآليات في النصوص الأخرى، كالحديث عن الطفو الذي أخذ صيغة حوار صحافي، يراوح فيه القارئ بين التصديق وعدمه بوصفه حوارا بين صحافي “الصوت المنطقي” وبين عالمة في الطفو “الفانتازيا”.
ويتضح استخدام التقنيّة في الحكاية المعنونة “غايات الوجود المهلكة”، المكتوبة على شكل وصية، والمستمدة من عروض التحرر من الأصفاد، وفيها نقرأ صوت الساحر نفسه، ومحاولته التخلص من قيود الوجود إثر غوايات ملاك وجنيّ له، ليتطابقا بعد ذلك في عدم الجدوى من الحياة، فالمخاطرة بالانعتاق من الحياة والتحرر من “قيودها” وثقلها، مشابهة لتلك التي يقوم بها الساحر للتحرر من قيوده تحت الماء وهو على شفا الموت.
هذه الأساليب المختلفة والمستويات المتداخلة لبناء الحكاية، تتضح فيها تقنيات تعدد الأصوات، إذ تحيل كل حكاية إلى نصوص أخرى تعيد قراءتها وتفسيرها، وتتكئ عليها بوصفها مرجعيات لها، لا عن طريق المضمون فقط، بل عن طريق الشكل ذاته، كالوصية والحوار الصحافي والشهادات النفسيّة، هذه الحالات بالرغم من أنها دعوة إلى التخيّل، تدفع القارئ إلى التساؤل عن مدى “صحّة” ما هو رسمي ومدوّن، وطبيعة الحدود بين الحقيقي/ التاريخي وبين ما هو فانتازي، فالمجموعة القصصية لا تكتفي بتفعيل المخيلة، بل تطرح لدينا التساؤلات عمّا هو مكتوب سابقا من نصوص، وهل يمكن أن يكون ما هو رسميّ فانتازيا؟
القطيعة مع الواقع
لا تمتلك مجموعة رشيدي، الصادرة عن دار “أطلس للنشر”، أيّ علاقة مع الواقع التاريخي الذي نعيشه الآن، أو الواقع الرسمي ونصوصه ومتغيراته، فهي تشكّل قطيعة كليّة، وتعيد بناء عوالمها ومرجعياتها الخاصة لتتخلص بذلك من القيمة السياسية المضافة، وتنشئ جمالياتها الخاصة والمرتبطة بالعوالم التي تحيل إليها التقنيات السحريّة والتي هي في الأصل مكشوفة للقارئ، فتكون الجوانب السياسيّة فيها غير مرتبطة بالحروب والصراعات الحاليّة، بل حاملة لطبيعة التمثيل التاريخيّ للعالم من حولنا.
ففي شهادات المختفين نقرأ عن الحساسية الإنسانيّة تجاه المجتمع المعاصر، والتساؤلات المطروحة حول حالات الاختفاء التي لا تنبع من وجهة نظر مرضيّة بل من وجهة نظر مهمّشة.
أما صيغة كراسات الطبيب النفسي التي توجد فيها هذه النصوص، فهي التي تحقق التناقض الذي يسائل التمثيل السياسي للعالم من حولنا، أي أنّ مرجعيات الشخصيات متخيّلة؛ فحياواتها وأسماؤها وقصصها لا تحتمل الإسقاطات الواقعية على “الآن/هنا”.
تعتمد المجموعة هذه القطيعة بوصفها كتابا ينتمي إلى المتخيّل في قطاع الأدب؛ الواقع متفاوت ولا متناه، في حين أن الكتاب نفسه يعيد هيكلة هذا الواقع مع إضافة عنصر يكتسب واقعيته من هذه الهيكليّة وهو “السحر”، فهي تخالف أنظمة التقييم الاعتيادية لتفتح المجال على احتمال جماليّ آخر، على الحدس لمتابعة السرد السحريّ بهدف اللهو الجماهيري كعروض السحر، التي تدهشنا في أول مرّة، ثم تدفعنا إلى التفكير عبر إعادة القراءة لاكتشاف التقنيّة، فقراءة المجموعة تجربة حسيّة بامتياز، كتساؤلات شخوصها أنفسهم، الذين يختبرون حدود أجسادهم عبر السحر نفسه، طارحين تساؤلات حول أقصى قدراته وطبيعته.