تفكيك المشهد السوري: تحولات الموقف التركي تجاه الثورة السورية (2)

في الحلقة الثانية من سلسلة “تفكيك المشهد السوري” يوضح الكاتب عماد غليون الأسلوب التركي في التعامل مع الملف السوري بعد زيارة أوغلو الشهيرة إلى دمشق، و عودته إلى أنقرة غاضبًا، هذا الأسلوب الذي أعطى تسهيلات غير محدودة لتشكيل المجلس الوطني، و الكثير من الكتل و الهيئات المعارضة، ثم يلفت غليون إلى طريقة تعاطي تركيا مع ملف سوريا، و تحولات سياستها الخارجية، و فتح حدودها أمام المقاتلين الأجانب، الأمر الذي سمح لاحقًا بتشكل تنظيم الدولة الذي بدأ يحارب الجيش الحر، و شكّل ذريعة للتدخل الروسي و الغربي في سوريا.

 

لقراءة الحلقة الأولى من الدراسة: تفكيك المشهد السوري: تحولات الموقف التركي تجاه الثورة السورية (1)

 

تركيا والثورة في أيام المجلس الوطني

بداية من الضروري التأكيد على الحاجة لدراسات منهجية متأنية لمجريات الثورة السورية التي تحوي الكثير من الأسرار والوقائع الغامضة بسبب التحولات الدراماتيكية في المواقف الدولية ضد الثورة السورية، لكن في ظل عدم إمكانية الحصول حالياً على الوثائق والملفات التي حكمت مواقف الدول فإن أي دراسة ستكون قاصرة بلا شك إضافة لعدم وجود مراكز متفرغة للدراسات المتعلقة بالثورة السورية وتحولاتها.

ما سبق لا يعني الانتظار طويلاً، بل يمكن البدء بالإضاءة على معالم رئيسية ومحددات تساعد في أي دراسة مستقبلاً، وذلك مهم لإعادة التقييم المستمر واستخلاص العبر والنتائج، وهو ما سنحاول القيام به هنا عبر البحث عن محددات الموقف التركي خلال فترة تمتد من عودة وزير الخارجية أوغلو من زيارته الأخيرة لدمشق في 8 أب 2011 والتي انتهت بالفشل الذريع في اقناع النظام بتبني الرؤية التركية للحل وحتى انتهاء دور المجلس الوطني عملياً بعد إنشاء الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة في 11 تشرين الاول 2012.

كما يبدو فإن أوغلو قدم خلال زيارته لدمشق خطة تتضمن شقين رئيسيين، الأول أمني يتعلق باحتواء الحل الأمني للنظام عبر تحميل ماهر الأسد المسؤولية غير المباشرة في سفك الدماء، ومن ثم إعلان البدء بمكافحة الفساد عبر إقصاء رامي مخلوف كرمز أساسي للفساد في البلاد. كان أوغلو يريد اصطحاب الاثنين معه خارج سورية في رحلة العودة لتركيا على أمل أن يساعد ذلك في احتقان الغضب الشعبي مع ترافق ذلك بإطلاق سراح المعتقلين والإعلان عن إصلاحات سياسية واقتصادية شاملة تكون فيها تركيا شريكاً كاملاً مع النظام، لكن النظام رفض خطة أوغلو بشكل قاطع واكتفى فيما بعد بإعلان رامي مخلوف المخادع توقفه عن النشاطات الاقتصادية وتحوله باتجاه الأعمال الخيرية، بينما أعلن أوغلو فور عودته لأنقرة القطيعة التامة مع النظام، ويوحي بأنه ذهب ليطالب النظام بقبول بخطته كما هي وبشكل كامل ودون التفاوض عليها وبما يشبه توجيه إنذار للنظام، من الناحية المنطقية يستغرب قيام رئيس الديبلوماسية التركية وهو أكاديمي معروف بقطع شعرة معاوية مع النظام إلا إذا كان هناك خطة أو عمل بديل بإسقاط النظام على الفور يتم التحضير له وهو ما لم يحصل بالفعل، ولم تحظَ تلك الزيارة المفصلية بالاهتمام الكافي وتسليط الضوء عليها وهي تخفي الكثير من الحقائق الصادمة بلا شك.

شهدت تركيا حراكاً واسعاً لمعارضين وناشطين سوريين قدموا إليها من كافة أرجاء العالم وسط تسهيلات تركية بالتحرك والعمل بحرية، بعد مؤتمر أنطاليا الصاخب والمخيب للآمال والذي شهد خلافات حادة بين الحضور، انعقد مؤتمر الإنقاذ الوطني ولم يحظَ بنجاح يذكر تجاه توحيد المعارضة ورؤيتها وبرامجها وتكوينها لجسم سياسي يمثلها.

بفعل ضغط قوي من الداخل والدول الداعمة الرئيسية تركيا وقطر بدأت اجتماعات حثيثة في استانبول بين كتل وشخصيات معارضة انتهت بالإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري والذي بدأت معه مرحلة جديدة من العمل السياسي للمعارضة.

 

لعل أبرز مظاهر السياسة التركية تجاه الثورة السورية خلال تلك الفترة تمثلت في النقاط الرئيسية التالية :

في الجانب السياسي: دعمت تركيا ومن ورائها قطر بقوة تشكيل المجلس الوطني وبات النظام يطلق عليه اسم مجلس استانبول للتقليل من قيمته وإظهار ارتباطاته وتبعيته للخارج، كان ذلك استنساخاً متسرعاً كما يبدو للتجربة الليبية في إسقاط نظام القذافي وقد أكدت هذا التكهن شهادات أدلى بها فيما بعد العديد ممن شاركوا في تأسيس المجلس.

حالة الاستعجال ظهر تأثيرها بوضوح على طريقة تشكيل المجلس حيث حازت كتلة إعلان دمشق وجماعة الإخوان المسلمين على الحصة الرئيسية في تركيبة المجلس وسينسحب ذلك فيما بعد وباستمرار على كافة مؤسسات وهيئات المعارضة التي سيتم تشكيلها ، وفي الجانب التنظيمي لم يتم وضع نظام داخلي محكم للمجلس كما أنه لم يعمل وفق نظام رقابي يكرس الشفافية والعمل المؤسساتي، ويظهر من جعل النظام الداخلي مدة ولاية رئيس المجلس قصيرة بأن المؤسسين يتوقعون إسقاط النظام بشكل سريع.

فشل الداعمون في تكريس الاعتراف بالمجلس في المحافل السياسية الإقليمية والدولية كممثل للثورة والشعب السوري كبديل عن النظام الذي فقد شرعيته حسب مواقفهم ، لكن توجهاتهم الفعلية كان سقفها أدنى بكثير من مواقفهم السياسية المعلنة، وانتظر المجلس دون طائل دعماً كبيراً مادياً ومعنوياً لينطلق في ممارسة أعماله بقوة وجدية.

بدأ دور المجلس يشهد تراجعاً مستمراً، حيث لم يحقق أيًا من الوعود التي انتظرها منه ثوار الداخل، إضافة إلى صعوبات وعوائق موضوعية وذاتية كان يعاني المجلس منها، كقلة الدعم وعدم وجود رؤية سياسية وطنية جامعة لديه كما أن الدول الداعمة لم تلتزم بوعودها الكبيرة تجاهه ولم تستطع منحه الشرعية الرسمية الضرورية.

بدأت تظهر كتل ومنظمات وتيارات جديدة كثيرة ويتم الإعلان عن تأسيسها باستمرار من استانبول، وبدأت تشكل ضغطاً إضافياً على المجلس وتطالب بحصة وتمثيل فيه، مما أدى لانتشار دعوات واسعة لتوحيد صفوف المعارضة وإعلانها رؤية وطنية موحدة لكل أطيافها، فانطلقت اجتماعات متعددة لإعادة هيكلة المجلس ووضع أسس لتوسعته من جهة وللإعلان عن وثيقة العهد الوطني من جهة أخرى، وفي ظل مرور الوقت وعدم تحقيق أي انجازات تذكر بدأت المطالب بتوسعة المجلس تتحول نحو استبداله بجسم جديد وهذا ما حصل في اجتماع الدوحة بالفعل الذي شكل نهاية عملية للمجلس الوطني وتحوله لمجرد جسم سياسي غير فاعل.

رغم الأريحية والمعاملة الطيبة التي كان يتحلى بها الجانب التركي في تعامله مع المعارضة، إلا أن مجالات الحرية التي تمتعت بها المعارضة كانت السبب في نشوء خلافات واسعة في صفوفها ولم يتضح أسباب أو أهداف عدم قيام الأتراك بممارسة أي نوع من التقنين الإيجابي لعمل المعارضة عبر تقديم النصح أو المشورة والتدخل لحل الخلافات بشكل مباشر ومنع الانقسامات في صفوفها ، و فضلت تركيا ممارسة سياسة مسرح العرائس في التعامل مع المعارضة من وراء الستار ما جعلها تفقد السيطرة على تحركاتها في نهاية المطاف، ولا شك تتحمل كافة أطياف المعارضة مسؤولية الفشل وعلى الأخص يقع اللوم على أنانية واستئثار الإخوان المسلمين وإعلان دمشق.

الجانب الميداني : بدأ الدعم العسكري لفصائل المعارضة المشكلة حديثاً يتدفق عبر الحدود التركية، وكان مقدماً من خلال قطر والسعودية بشكل رئيسي، لكن ذلك كان يتم بصعوبة وحذر شديد وعبر وسطاء وبمعرفة أجهزة أمنية تركية معينة ، كانت هناك أطراف داخلية تركية عسكرية وأمنية وسياسية تعارض قيام تركيا بتقديم أي دعم عسكري أو التدخل المباشر في الملف السوري، وكان إدخال أي معدات وذخائر عسكرية للداخل السوري يتم بالاتفاق والتوافق المسبق مع الغرب، وبالتالي فقد كان ذلك الدعم محدوداً في الكم والنوع، ولم تقم تركيا بأي محاولة لاختراق كوتا الدعم المفروضة عليها والممنوحة لكتائب الجيش الحر.

مع ذلك كان الدعم يقدم بطريقة لا تتناسب مع تغيرات الوضع الميداني بشكل كبير لصالح الثوار ولا مع مطالبهم وحاجتهم بفتح جبهات في مناطق مهمة وحساسة يؤدي تحقيق الانتصار فيها نتائج حاسمة باتجاه إسقاط النظام.

لم يكن الدعم العسكري كافياً لاحتياجات الثوار ولم تكن الأسلحة والذخائر كافية كما أن الأسلحة النوعية ممنوعة ولا يسمح لكتائب المعارضة بامتلاكها، ولا يسمح لهم بفتح أي معارك مع النظام في دمشق أو الساحل وإلا فإنه سيتوقف دعمها ، ومع كل تلك الشروط القاسية يصبح ذلك الدعم مجرد وسيلة لمقاومة النظام لا إسقاطه بالضربة القاضية.

قامت تركيا بوضع المنشقين العسكريين عن النظام ضمن مخيم خاص بهم، وعاملتهم كلاجئين ولم تعمد للاستفادة من خبراتهم العسكرية أو تقديم الدعم لهم وتنظيمهم في فصائل مقاتلة وتدريبهم ليكونوا نواة لجيش وطني سوري جديد رغم حاجتها الماسة لفعل ذلك.

غضت السلطات الأمنية التركية الطرف عن تدفق المقاتلين عبر حدودها بحرية من جميع أرجاء العالم بحجة دعم الثورة السورية، كانوا يتنقلون داخل تركيا ويقيمون في مناطق معروفة ومراقبة أمنياً وينقلون أموالهم عبر المطارات بدون خوف، ومن طلائع هؤلاء المقاتلين تشكلت التنظيمات الجهادية ومن ثم تحولت نحو التطرف وقتال الجيش الحر ولتصبح مبرراً فيما بعد لتدخل الغرب عبر التحالف الدولي ومن ثم روسيا في سورية بعد وضع تلك المنظمات على قائمة الإرهاب الدولي وعلى الأخص تنظيم الدولة وجبهة النصرة.

باختصار يبدو أن الدعم التركي كان يرمي لإدارة الملف بدلاً من حسمه عبر إسقاط النظام، ويتأكد ذلك من خلال نوعية الدعم وطريقة تقديمه وتقييد استخدامه واختيار المستفيدين منه وأخيراً في عملية إفساح المجال أمام تدفق المقاتلين من الخارج في محاولة كما يبدو لاستيعاب التمدد الكردي من أقصى الشمال الشرقي.

ماذا لو تدخلت تركيا في سورية بشكل مباشر قبل أن يقوم الآخرون بذلك ؟ هل كانت تمنعهم خطوط حمراء مفروضة عليهم؟ أم هو تردد القيادة التركية وخوفها من التداعيات والنتائج على الأمن القومي التركي وتفضيلها حصد النتائج عبر إدارة الصراع ؟.

يمكن القول كنتيجة منطقية أن الدعم المقدم عبر الحدود التركية لم يكن بأي حال كفيلاً بإسقاط النظام في دمشق بل يساعد على انتزاع مزيد من المناطق من سيطرة النظام خاصة في الشمال.

العلاقات الخارجية التركية:

كانت تركيا بحاجة لبناء علاقات معقدة مع دول تتناقض مواقفها معها كلياً في الملف السوري وعلى الأخص روسيا وإيران، وكان ذلك يستدعي نوعاً من التفاهمات غير المعلنة والتنازلات في سبيل الاحتفاظ بمصالح اقتصادية هي بأمس الحاجة إليها، كان هذا يقود لضعف شديد في الموقف التركي وتراجعه باستمرار، لم تكن تركيا قادرة على مواجهة الضغوط الاقتصادية عليها ولم تستطع أن تعول على دعم خليجي قوي في ظل خلافات كانت تعصف بدول مجلس التعاون وخاصة قطر والسعودية.

ويضاف لما سبق السعي التركي الدائم للتوافق مع مطالب وشروط حلف الناتو والالتزام بسياسته المقررة في الملف السوري.

ويبقى السؤال الهام هل كان على أردوغان التحرك بشكل منفرد دون الالتفات للعبة الحسابات الدولية المعقدة خاصة مع وضوح التردد الأمريكي ؟ وهل كان التردد التركي سبباً لفتح المجال لتدخل الأخرين من دول وميليشيات بشكل مباشر؟ مع أن تركيا هي الدولة الأكثر قدرة وفاعلية في تحقيق نتائج حاسمة فيما لو فعلت ذلك بشكل مبكر قبل غيرها .

يبدو أن تركيا أدركت خطأها التاريخي في وقت متأخر حسب الكثير من المحللين السياسيين الأتراك، وفي النتيجة فإن الشعب السوري دفع وحده ثمن سياساتها غير المتزنة والمترددة، ولذلك لم يستقبل التدخل التركي المتأخر بالحفاوة المنتظرة بل تم النظر إليه بحذر شديد.

 

لقراءة الحلقة الأولى من الدراسة: تفكيك المشهد السوري: تحولات الموقف التركي تجاه الثورة السورية (1)

 

يتبع..

[perfectpullquote align=”right” cite=”” link=”” color=”” class=”” size=””]جميع الدراسات و الأبحاث المنشورة تعبر عن رأي كتّابها و المراكز التي أعدّتها و لا تعبر بالضرورة عن رأي “مرآة سوريا[/perfectpullquote]

أضف تعليق