لا يزال تاريخ الشعوب العربية يؤثر بشكل كبير على حاضرها ومستقبلها، وهي لا تستطيع التخلص من تبعاته بل تعيد إنتاجه وتفسيره باستمرار تحت صيغ جديدة تجعله ملائماً للرغبات والتوجهات الدينية والطائفية والفكرية والثقافية والإيديولوجيات السياسية وبما يخدم استمرار سيطرة الطبقات الحاكمة.
يعيش التاريخ في كثير من تفاصيل حياتنا اليومية، نتحدث عنه للمقارنة بين الأحوال السيئة لشعوبنا هذه الأيام وبين ماض مجيد تليد كنا فيه سادة شعوب العالم، وتم إفهامنا قسراً أو طوعاً وعلى الدوام وبطرق مختلفة منذ الصغر أننا سنبقى أكثر شعوب العالم تخلفاً ما لم نقم باستجلاب الماضي وإعادة إحياء التراث من جديد.
البعض يعيش التاريخ من خلال إيمانه الجازم بأصول عائلته وجذورها الضاربة في عمق التاريخ وبالتالي تحقيق أفضليته على الآخرين من خلال انتسابه لقبائل عربية قديمة مشهورة أو الادعاء بالانتساب لآل بيت رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الصعب إسناد تلك الدعوات للمنطق العلمي السليم مع أن علم الأنساب أحد العلوم العربية القديمة الأساسية والمؤثرة.
دعاة القومية العربية والعلمانية يريدون من خلال التاريخ البرهنة على وجود تاريخي سحيق للأقوام العربية، ويشيدون بحضارات العرب القديمة ولا يعتبرون أن ظهور الإسلام هو ما قلب أوضاع العرب رأساً على عقب ويرفضون الحديث عن جاهلية العرب قبل الإسلام.
ينظر دعاة السلفية الدينية السياسية الرائجة هذه الأيام للتاريخ بشكل مختلف تماماً عن غيرهم، فالتاريخ المفيد عندهم يشمل فقط تلك الفترة القصيرة التي شهدت ولادة دولة الإسلام وحكم الخلفاء الأربعة، وهم يستقون برامجهم وأفكارهم فقط من خلال إسقاطها على تلك الحقبة التي يعتبرونها النموذج الذي يجب إعادة إحياءه في حياتنا المعاصرة لنستعيد أمجادنا الغابرة، ويعتبرون أنّ كل ما عدا ذلك باطل ومشوه ويجب إعادة تصحيح الحاضر بكل مفرداته السياسية والدينية والاجتماعية والقيمية ليتوافق مع الفترة الذهبية للإسلام ويعلنون القطيعة مع قيم الغرب في الحرية والديمقراطية رغم عدم استطاعتهم التخلي أو العيش بدون إنجازات الغرب العلمية الهائلة.
يبدأ التاريخ لدى الشيعة عند واقعة تاريخية محددة بعينها وهي حادثة كربلاء التي سيبنون عليها كافة عقائدهم فيما بعد بينما سيقوم الفرس باستخدام التشيع وسيلة لتحقيق أغراض سياسية بحتة والانتقام من العرب الذين أسقطوا مملكتهم، وبكل الأحوال فإن الشيعة يدعون مظلومية تاريخية لم تمسهم ويستندون إليها لتشريع سعيهم للثأر والانتقام، وبدون تلك الذريعة التاريخية تنهار نظريات الشيعة السياسية وتتحول لمجرد نظرية مذهبية لا أكثر وتصبح معرضة للضعف والاندثار ولذلك يعمل رجال الدين الشيعة على التفنن في سرد تلك الواقعة وزيادة كثير من التفاصيل الدرامية عليها لجعلها جذابة يمكن من خلالها بث روح الحماسة لدى المتشيعين ودفعهم لتقديم حياتهم عند أول نداء للثأر يطلقه رجال الدين الشيعة.
في الآداب بقي الشعر العربي القديم هو السائد ولم يتم القبول بالشعر الحديث أو تقبله من قبل النقاد إلا بعد مخاض عسير وشروط صعبة حتى يتم منح لقب شاعر، ولا تزال المعلقات السبع أو العشر من الأعمال الأدبية التي تصل لمرتبة التقديس، وعندما قام طه حسين بتوجيه النقد للشعر الجاهلي فقد تم مواجهة كتابه بعشرات المؤلفات للرد عليه.
بالمقابل نشهد باستمرار محاولات لتشويه تاريخنا بطرق ووسائل مختلفة، تسعى تلك المحاولات لتحقيق مصالح خارجية من دول وقوميات وشعوب عبر تحطيم أحداث التاريخ العربي الكبرى وتقزيم الشخصيات التاريخية العربية وتشويهها بهدف التدليل على الفشل الدائم للعرب في الماضي والحاضر.
أصاب التاريخ العربي تشويه واسع بسبب الظروف التي مرت على البلاد العربية والتي أدت لفقدان الكثير من المراجع التاريخية عبر إخفاءها أو طمسها وحرقها لأسباب دينية مذهبية أو سياسية بحيث بات الحصول على الحقيقة التاريخية أمراً بالغ الصعوبة ويحتاج لجهود ضخمة في البحث العلمي والتدقيق المنهجي، وباتت كتب التاريخ والطوائف والوقائع موزعة معتمدة لدى كل طائفة بما يتناسب مع عقائدها، وعندما فكرت بعض الحكومات بإعادة كتابة التاريخ فإنما فعلت ذلك لأهداف سياسية بحتة تخدم مشروعها السلطوي وليس من أجل تنقية التاريخ من الشوائب عبر البحث العلمي، ولم يكتب لأي مشروع من هذا النوع النجاح بطبيعة الحال.
لأننا فشلنا في فهم التاريخ وإعادة قراءته من جديد بشكل متوازن وبدون تقديس أو تفريط وبما يتناسب مع عصرنا، فإنه بات يمثل قيداً يعيق حركة مجتمعاتنا نحو الحضارة من جديد، تحول التاريخ إلى بعبع وتابو يؤرق حياتنا، فهل نستطيع التخلص من إساره؟ وكيف؟.