من جديد طرح حزب العدالة والتنمية على البرلمان التركي مشروع تعديلات دستورية لتحويل نظام الحكم في البلاد من برلماني إلى رئاسي، وفي حال إجازة البرلمان للمشروع سيتم طرحه على استفتاء شعبي، ويبدو أن الحزب مصمم على المضي في سعيه إلى النهاية رغم معرفته بالصعوبات التي ستواجهه.
يرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن النظام الرئاسي خطوة لا بد منها لمنحه الصلاحيات الكافية لتنفيذ مشروعه السياسي والتنموي الشامل والذي بدأه في تركيا منذ أكثر من عقد من الزمان، بينما يرى خصومه من المعارضة أنه يسعى للهيمنة على كافة السلطات لا بل والتحول بتركيا نحو السلطنة العثمانية من جديد، وذلك سيؤدي لتقليص مناخ الحريات العامة باتجاه تكريس سيطرة دائمة لحزب العدالة والتنمية على السلطة بطبيعة الحال.
تمر تركيا بظروف داخلية صعبة فهي تقع تحت تهديدات ومخاطر أمنية مستمرة، وبينما لا تزال قواتها منشغلة بالحرب على الأكراد في الجنوب الشرقي من البلاد وجدت أنه لا مناص أمامها أخيراً من التدخل المباشر في سورية، ويترافق ذلك مع مشاكل اقتصادية كبيرة تفاقمت بعد محاولة الانقلاب الفاشلة واتهام جماعة فتح الله غولن بها ومن ثم البدء بتفكيك الجماعة التي وصل عدد المسرحين من القطاع العام من أفرادها أكثر من 135 ألف حسب مسؤول تركي، ورافق ذلك هروب استثمارات ورؤوس أموال من تركيا وتراجع موارد السياحة والترانزيت بشكل كبير ما أدى لهبوط كبير وسريع وغير مسبوق بسعر صرف الليرة التركية الأمر الذي سينعكس بشكل سلبي على معدلات النمو في البلاد ومستوى المعيشة.
واضح أن الظروف الداخلية في تركيا غير المستقرة لا تسمح بالمباشرة بطرح مشروع تعديل دستوري بهذا الحجم، لكن العلاقات الخارجية لتركيا تمر بأسوأ أيامها ومراحلها وخاصة مع أمريكا و دول حلف الناتو و الاتحاد الأوروبي وفي ظل ما يشبه الحرب غير المعلنة بين الطرفين لم يجد أردوغان كرد على ذلك سوى التنازل للروس والعودة لتطبيع العلاقات معهم وصولاً لتحقيق علاقات استراتيجية.
من المقامرة طرح مشاريع تعديلات دستورية تمس مستقبل تركيا وهي تعيش أزمات سياسية واقتصادية داخلية وخارجية خانقة، ومن المتوقع أن يؤدي ذلك لمزيد من التعقيد في المشهد، خاصة مع ربط تلك التعديلات ومصيرها بشخصية أردوغان ومستقبله السياسي.
تعتمد الكثير من البلاد العريقة ديمقراطياً النظام الرئاسي بنجاح كأمريكا وفرنسا لكن ذلك مرتبط بالظروف التاريخية السياسية لكل بلد، بينما يشكل النظام البرلماني حالة ديمقراطية رائدة في بلدان كثيرة إلا أنه قد يكون عائقاً أمام تشكيل حكومة قوية تستطيع تنفيذ السياسات والبرامج الحكومية ونرى ذلك في عدة دول مثل إسرائيل وبلجيكا وإيطاليا حيث يكون المشهد الحزبي فيها معقداً وتتوزع أصوات الناخبين على أحزاب صغيرة تجعل من الصعب على الحزب الفائز بالأغلبية تشكيل حكومة بمفرده دون اللجوء للتحالف مع أحزاب صغيرة تقوم عادة باستغلال الموقف والابتزاز وفرض شروط تخدم أجندتها ومصالحها السياسية وربما يكون النظام الرئاسي أجدى لها ولبعض الدول التي تخضع للمحاصصة السياسية الطائفية كلبنان والعراق.
ستشهد تركيا بلا شك أوقاتاً طويلة صعبة بانتظار انتهاء معركة التحول نحو نظام رئاسي وخلال ذلك ربما سنشهد إعادة اصطفاف جذرية في المشهد السياسي حتى داخل حزب العدالة والتنمية نفسه، حيث يتوقع ظهور تحالفات جديدة أو بروز أحزاب وتراجع أخرى سيؤثر ذلك إضافة للوضع الاقتصادي الصعب بشكل كبير على تحديد نتائج ومصير الاستفتاء الشعبي حول التعديلات الدستورية.
سيكون الاستفتاء على شعبية حزب العدالة والتنمية قبل أن يكون على التعديلات الدستورية ولا خيارات أخرى أمام الحزب سوى النجاح لأن الفشل يعني تراجع شعبية الحزب وفقدانه السيطرة على الحياة السياسية في تركيا، وفي المقابل لم يبقَ أمام المعارضة سوى هذه الفرصة الأخيرة لإسقاط المشروع وإلا فإنها ستخسر ما تبقى لها من مؤيدين، هي معركة مصيرية في الحياة السياسية التركية، وسيكون التدخل الأجنبي فيها ضد أردوغان سافراً ولن يستطيع الاختباء، و في النهاية ستنجلي المعركة عن احتمالين إما عدم تمرير الاستفتاء شعبياً وذلك يعني رسمياً انتهاء دور العدالة والتنمية و أردوغان، أو أنه سيكرس أردوغان زعيماً قوياً وسلطاناً عثمانياً جديداً بقوة الدستور هذه المرة.