قبيل انطلاق الثورة فك النظام الحظر الذي كان قد فرضه على الفيسبوك، ما ضاعف بشكل كبير عدد السوريين الذين اتخذوا لأنفسهم حسابات في تلك الساحة الزرقاء، والتي كانت في البدايات بمثابة منصة تواصل لتنسيق الأنشطة ونشر أخبار الثورة، العسل الذي لم يدم، إذ عمل النظام بشكل حثيث على تجييش هذه الظاهرة لصالحه، عبر الصفحات التي تنشر أخبارًا كاذبة أو حسابات وهمية تتحايل للإيقاع بالثوار والنشطاء في شرك الاعتقال مرات ومرات أخرى في شرك البوح بمعلومات سرية تكشف أنشطة ضد النظام أو حتى معارك –كما تحدثت كثير من التقارير والتحقيقات الصحفية-.
مع تحولات أوضاع السوريين وتباعد المسافات بينهم وتقطع أوصال الأراضي السورية، صار الفيسبوك هو الملاذ الأكبر للتواصل والبوح، فمن يبوح بعشقه ومن يبوح بكراهيته وآخر يبوح بمرض أو شوق أو حنين للأهل والوطن … وغدا منصة لمشاركة الآراء والتقلبات النفسية والمزاجية… لكن كل هذا كان يمر دون ضوابط، بدءا من سوريا دولة اللاقانون ومرورا بدول الجوار التي لا تقونن وجود اللاجئين فيها، وليس انتهاء باللاجئين… بل وقوفا عند الضوابط الأخلاقية للكاتب وإحكام العقل عند الجمهور.
استوقفني منذ يومين منشور للفنانة "مي سكاف" تشارك مع جمهورها قصة احتيال تعرضت لها في عمان – الأردن و بعد عرض القصة شاركت أسماء المتورطين بهذه القضية، والذين وصل أحدهم لاجئا فيما بعد إلى فرنسا –كما السيدة مي- وما دفعها للكتابة هو معرض لصور اللاجئين في مخيم الزعتري يقيمه المتهم في فرنسا، إلى هنا يبدو سياق القصة عاديا نوعا ما، و يحدث كثيرا في سياق الحالة السورية، لتأتي المفاجآت في تفاعل الجمهور الذي يظهر وكأنه في حلقة الدبكة الشعبية و يبدو معه أن صاحب المنشور هو محرك الدبكة بمنديله أو سبّحته و إيقاع أقدامه، أو مجازا كلماته الفيسبوكية، ليتمايل الدبّيكة على الإيقاع ذاته، وهذا تماما ما يحدث في الفيسبوك السوري الذي تنعدم فيه ثقافة الحوار، وتغلب فيه مصادرة الرأي المختلف.
عندما يحدث هذا كله على صفحات الجيل الناشئ والأشخاص العاديين قد يبدو مستساغا ومبررا نتيجة التراكم القمعي الذي عاشه الشعب السوري عامة في حقبة الاستبداد، أما أن يحدث في صفحات النخب المثقفة!! فهنا الكارثة التي تضع المرء أمام إشارات الاستفهام الضخمة و تستحضر بشكل سريع جدا تراتبية التغيير وأسئلة دور المثقف وجوهر القيم وآليات التغيير و…
ألف سؤال وسؤال كان يطالعني بينما أقرأ التعليقات والردود، لكن الرد الذي كتبته الفنانة "مي" تعليقا على رد شابة –على ما يبدو أنها صديقة للشاب المتهم- واصفة إياها بالعاهرة واللصة، كان هذا صاعقا للغاية، أعدت قراءة رد الشابة ولم أجد فيه ما يستدعي ردا كهذا، بل أيا كان ردها، هل بات مستساغا للنخبة المثقفة أن تطلق سيل اتهامات كهذه!!!! صعقني أكثر صمت الجمهور، بل وتأييد بعضهنّ من السيدات اللواتي يقدمن أنفسهن على أنهن "نخبة مثقفة" كذلك.
كمتلقية عادية -لا أعرف أيا من أشخاص هذه القصة- يبدو لي سياقها كارثيا، يبدو لي انهيارا في المنظومة الأخلاقية التي كنا نعول أنها الشيء الوحيد الذي لن يستطيع النظام سلبنا إياه، كان الشبيحة في بدايات الثورة ينعتون الشابات المشاركات في الثورة بالعاهرات، وكنا نتقزز من انحطاطهم الأخلاقي، وإفلاسهم اللغوي والمعرفي للجوء لكلمة سطحية مبتذلة للإعلان عن الغضب من المختلف، لنرى بعد سنوات أن المعارضين باتوا ينحدرون في نكوص مريع، باتوا يتراشقون هذه العبارات المذلة والمهينة لقيم يدعون حملها.
يعصف بي السؤال الأكثر بساطة، أين القانون في كل هذا؟ إذ ترتقي سلوكيات كهذه إلى جنحة يحق لضحيتها الادعاء على المتلفظ بها بتهم القذف والشتم والتشهير… هل ستقدم تلك الشابة على الادعاء على الفنانة القديرة؟ حينها أي مأزق سنوضع فيه حين تحاكم نخبنا المثقفة بتهم كهذه بعد أن كانت تحاكم في سوريا بتهم التمرد على الديكتاتور؟!! إن حدث هذا هل سيتمكن الجمهور الفيسبوكي من كبح غريزة التأييد الأعمى وعدم التعرض بالإساءة للشابة من جديد؟ يؤسفني أنني لا أتساءل عن مساحة التضامن التي ستحظى بها هذه الشابة أمام فنانة قديرة مشهورة، ولها جمهورها الفيسبوكي العتيد، ويؤسفني أن أسأل أين القانون؟.