قتلت ديمقراطية أثينا سقراط عندما حكمت عليه بشرب السم حتى الموت في مشهد رهيب مؤثر قام بذلك طوعاً دون القبول بالهروب دون تنفيذ الحكم، ومع ذلك لا زالت تعتبر تلك الديمقراطية في كتب العلوم السياسية من أرقى أنواع الحكم بالشورى وتداول الرأي والسلطة.
رغم أن الديمقراطية تدعو لتحقيق حكم الشعب لنفسه إلا أنها أنتجت خلال مسيرة تاريخية طويلة تمتد لأكثر من ألفين وخمسمائة عام الكثير من النماذج السيئة للسلطة والحكم، فمن خلالها استطاع هتلر الذي بالكاد حصل على الجنسية الألمانية اعتلاء عرش ألمانيا وقام بحربه المدمرة التي أزهقت أرواح ملايين الأشخاص في العالم بالتحالف مع حاكم إيطاليا موسوليني وإمبراطور اليابان هيروهيتو.
باسم الديمقراطية ومن أجلها حشد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب الأساطيل الأمريكية وقوات تحالف دولي واسع ضد العراق ودمره وحاصره بحجة تحرير الكويت في 1993، ثم جاء جورج بوش الابن ليشكل تحالفاً دولياً واسعاً قام بتدمير أفغانستان بداعي الحرب ضد الإرهاب على تنظيم القاعدة وطالبان في 2001، ومن بعدها قام التحالف الدولي باحتلال العراق في 2003 ودمره بشكل شامل و ممنهج بحجة وجود أسلحة دمار شامل تبين فيما بعد أنها كانت مجرد خدعة وذريعة لتبرير احتلال العراق لا أكثر.
لم تكن الديمقراطية يوماً عائقاً أمام قيام الغرب لاحتلال الشعوب الأخرى وتدمير مجتمعاتها ونهب ثرواتها، فالغرب بقي على الدوام يعتبر الديمقراطية سلعة خاصة به وله باعتبارها من إنتاجه، ولم ينفذ أياً من وعوده للشعوب الأخرى بمساعدتها للوصول لحكم ديمقراطي في بلدانها، وعلى العكس كان يفضل التعامل مع حكومات ديكتاتورية تحقق مصالحه مقابل حمايته لها، وكانت ثورات الربيع العربي الفرصة الأخيرة التي فقدها الغرب أمام الشعوب العربية عندما تركها بدون تقديم الدعم المناسب لها وجعل تلك الثورات تتحول من فرصة للتغيير والتحول الديمقراطي إلى مأساة رهيبة تجعل ربما من تكرار التجارب الثورية في أماكن أخرى أمراً أكثر صعوبة فيما بعد.
ويتكرر فشل النموذج الديمقراطي هذه الأيام مع وصول دونالد ترامب لرئاسة الدولة العظمى أمريكا مع افتقاره لأدنى مقومات العمل والخبرة السياسية، وبات من الضروري إجراء مراجعة نقدية سريعة لطريقة عمل النظم السياسية وحاجتها لتغييرات جذرية يمكن من خلالها وضع ضوابط صارمة على ممارسي العمل السياسي ومتقلدي المناصب العليا في الدولة وعدم السماح بوصول عديمي الكفاءة لمراكز القرار، ولا شك أن ذلك ضرورة للغرب لاستمرار حكوماته في تحقيق الاستقرار لبلادها والرفاه لمواطنيها.
سمحت الديمقراطية الغربية بنشوء أحزاب يمينية متطرفة في بلدانها وبات بعضها قريباً من الوصول للسلطة كما في فرنسا وألمانيا والنمسا وغيرها، والغريب أن تقوم الديمقراطية من جديد بإنتاج نقيضها القاتل بعد أن كان ذلك سبباً للحرب العالمية الثانية، ونشهد باستمرار صعود اليمين المتطرف مقابل تراجع اليمين المعتدل واليسار؛ وليس من خيار أخر متبقي سوى صحوة الشعوب الأوروبية للتصدي لليمين المتطرف أو إجراء تغييرات جذرية في الدساتير والأنظمة الغربية تقوم بتحجيم اليمين المتطرف والحد من انتشاره.
يثير ترامب مخاوف جدية بعد أيام قليلة من جلوسه على عرش البيت الأبيض وذلك من خلال ما اتخذه من قرارات خطيرة تمس بالحريات وحقوق الإنسان خاصة فيما يتعلق بقرار منع مواطني سبعة دول من دخول أمريكا بحجة أن بلادهم تخضع للإرهاب والتطرف الإسلامي، وربما يستمر ترامب في إصدار قراراته المثيرة للجدل والتي سينتج عنها احتجاجات متصاعدة عالمية وفي الداخل الأمريكي، وهناك كثيرون يرجحون عدم إمكانية استمرار ترامب في منصبه كرئيس لأمريكا حتى نهاية فترته الرئاسية وستتم تنحيته بطريقة أو بأخرى لتلافي الأخطار الجسيمة التي سيلحقها بالسلام العالمي.
هل نشهد محاكمة ترامب على عنصريته و عنجهيته ؟ هل ستوقف عند حد معين ويتراجع عن غلوه وتطرفه القاتل ؟ أم سيتم تركه ليسعى في تدمير قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي عاشت شعوب العالم الثالث طويلاً بانتظار تجربتها والعيش في كنفها ؟ أم هل سينتهي هذا المخاض العسير ربما بولادة نظام عالمي جديد من خلال أنظمة سياسية بطرق حكم وقيم جديدة ؟
بعد أكثر من 2500 عام تمت إعادة محاكمة شكلية لسقراط عام 2012 وأصدرت المحكمة قرارها ببراءته، وقال محامي الدفاع عن سقراط : إن التعبير عن الرأي ليس بجريمة فسقراط كان يسعى إلى الحقيقة فقط لكن عيبه أنه كان يحب أن يهزأ ويستخدم سخرية شرسة، وحذر محامي الدفاع من فخ تشويه الديمقراطية وطالب بتبرئة موكله سقراط لأنه من خلال ذلك سيتم إثبات أن الديمقراطية أكثر صلابة وقوة ويمكن الوثوق بها. أما محامي مدينة أثينا فقال خلال المحاكمة أن سقراط كان يشترط الاستفادة من الديمقراطية وأضاف أن حرية التعبير لها حدودها وما من أحد يمكنه أن يمجد هتلر أو ينفي المحرقة.
نفس الأسئلة المتعلقة بالديمقراطية يعاد طرحها من جديد بعد الزوبعة التي أحدثها ترامب والقلق الذي ينتاب العالم مما يمكن أن تصل إليه الأمور.
هل سنشهد يوماً قريباً تتم فيه محاكمة ترامب لكن على النقيض تماماً من محاكمة سقراط؟
و هل الديمقراطية التي قتلت سقراط هي نفس الديمقراطية التي صعد هتلر واليمين المتطرف و ترامب من خلالها للسلطة ؟