انتشرت مكاتب بيع الشهادات الجامعية المزورة أو الوهمية كالسرطان في جسد المدن التركية في ظل احتدام الحرب السورية التي شردت الملايين من أبناء الشعب السوري وحرمت فئات الشباب المختلفة من إكمال دراستهم الجامعية وتفاقمت تلك الظاهرة الدخيلة مع الانتشار الواسع لوسائل التكنولوجيا الحديثة وكثرة مواقع التواصل الاجتماعي حتى أصبح بيع الشهادات الجامعية متوفراً على البسطات وفي الشوارع كما تباع السيديات أو الملابس المستعملة أو مستحضرات التجميل المغشوشة في أسواق وحارات المدن وأزقتها.
ما نطرحه اليوم ليس ضرباً من خيال وإنما حقيقة روج لها مزورون امتهنوا التجارة بعقول ومستويات البشر فاختلقوا صرعة جديدة من صرعات التلاعب والتزوير تجار يعملون تحت مظلة الحرب السورية.
ظاهرة انتشرت بكثرة في معظم المناطق الحدودية التركية السورية كأورفا وهاتاي وغازي عنتاب وفي مدن الداخل التركي كاسطنبول وأنقرة ومرسين وغيرها حيث لاقت رواجاً غير مسبوق لدى الشباب السوريين اللذين طالت مدة إقامتهم خارج حدود الوطن ما جعلهم يفكرون بتلك التجارة الرائجة ليعيشوا من ورائها ويمنحوا الراغبين بالهجرة إلى الدول الأوروبية شهادة تثبت براعتهم في مهن واختصاصات متنوعة وأكثرها شيوعاً إجازة في الأدب واللغة والاقتصاد والتجارة والطب والهندسة بأثمان بخسة.
شباب انقطعوا عن الدراسة الجامعية في سوريا لأسباب أمنية ومخاوف من الاعتقال أو السوق إلى الخدمة العسكرية ما أعاق حصولهم على شهادة تثبت أهليتهم في التعليم أو الطب أو الهندسة رغم أنهم على وشك إتمام الحلم المنتظر وبعضهم ممن تحدثوا “بغصة قلب” إلينا وكانوا في موادهم الأخيرة من السنة الجامعية الأخيرة وفئة من أولئك الشباب غرتهم الشهادات وتعالت طموحاتهم في بلاد أوروبية فسارعوا للحصول على اختصاصات عليا في الجامعات كي يستفيدوا من سرعة الحصول على الإقامة في الدول التي يهاجرون إليها ولا يميزهم أحد هناك ويتشدقون بالقول الكريم “وهل يستوي اللذين يعلمون واللذين لا يعلمون”.
وعمد بائعو الشهادات الجامعية إلى الترويج لتلك التجارة من خلال افتتاح مكاتب علنية خاصة تحت مسميات مختلفة وعناوين باسم خدمة اللاجئين السوريين وتسهيل معاملاتهم الرسمية في تركيا مثل مكتب متخصص بالشؤون القانونية وآخر خدمات المغتربين وكل ما يحتاجه السوري في الغربة وصرخات مهاجر وتفنن أصحاب تلك المكاتب أو الشركات الربحية بنشر الإعلانات وكروت الفيزيت بهدف اصطياد الحالمين من السوريين الميسورين خاصة مع ازدياد عدد المدارس السورية المؤقتة ومنظمات الإغاثة والإنسان التي تطلب بين الحين والآخر موظفين يحملون شهادات جامعية وخبرات فيجدون كل الشروط تتحقق بمكالمة هاتفية أو دردشة على الواتس أب لأن المكاتب التي تزور وتبيع الشهادات الجامعية لا تخجل ولا تخاف لومة لائم جراء وضع عناوين وأرقام هواتفها بالخط العريض في داخل تلك البطاقات والإعلانات وفي صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي.
ولا يقف الأمر عند وضع العنوان ورقم الهاتف بل يتعداه لنشر لائحة بأسعار الشهادات الجامعية بحسب الكلية أو التخصص المطلوب والتوصيل مجاني أيضاً.
وتتراوح أسعار تلك الشهادات المشبوهة بين 100 و3000 دولار وذلك حسب معدل العلامات المطلوبة “أنت تختارها بنفسك” وجودة الأختام المستعملة للشهادة ونوعية الأوراق المطبوعة بها فمنها السيء والجيد والوسط أيضاً كما يؤكد أصحاب المكاتب المشبوهة التي تواصلنا معهم دون علمهم بأننا نجري تحقيقاً صحفياً يفضح ممارساتهم اللا أخلاقية الدنيئة وسط غياب كامل لدور حكومي تركي وعدم وجود صلاحيات للحكومة المؤقتة أو الائتلاف في قمع أو مكافحة تلك الظاهرة.
وكشف لموقع مرآة سوريا أحد تجار الشهادات الجامعية في اتصال هاتفي عن آلية عمله منوهاً إلى أنه يستعمل أختاماً حية مصنوعة في تركيا وقال:” لا تختلف الشهادات التي نمنحها في مكتبنا عن الشهادات الأصلية سوى أن الشهادات المختومة في مكتبنا ليس لها أي قيود لدى نظام الأسد ولا يتم كشفها إلا عند سجلات النظام”.
وأضاف :”إذا كنت تريد مصدقة مختومة بدون النسخة الأصلية “كرتونة” سعرها 100 ليرة تركية فقط أما الشهادة الأصلية مع التصديق من الخارجية فسعرها 100 دولار وهذا السعر تقريباً لجميع الشهادات وتصلك إلى بيتك دون أن تتكلف عناء المجيء إلى مكتبنا” وننوه أن “ميزة إرسال الشهادات الجامعية موجودة لدى جميع مكاتب بيع الشهادات وتجارها وتتم عن طريق شركات نقل الأموال والبضائع ومنها شركة ptt التركية المعروفة”.
أبو محمد – من ريف دمشق وهو صاحب مكتب خدمات قانونية رفض الكشف عن اسمه الحقيقي يروي لموقع مرآة سوريا تجربته في هذا المجال الذي يسميه خدمة للاجئين وتيسير أمورهم فيقول:”خرجت مع عائلتي من ريف دمشق بعد وصول الحرب إلى مرحلة عقيمة ولم أكن مقتنعاً بالعيش في تركيا بدخل محدود بالكاد يسد رمق الحياة فقد كان حلمي الهجرة إلى أوروبا وبحثت عن الحل الذي يمكني من تحقيق حلمي وفكرت كثيراً دون جدوى”.
ولا يرى أبو محمد ضيراً في استعمال الشهادات في بلدان أوروبية كونها تخدم اللاجئ وتساعده على تسريع الإقامة والحصول على عمل إن رغب بذلك مؤكداً أن الكثير من السوريين استطاعوا اجتياز تلك القضايا وحققوا حضوراً في دول غربية بفضل تلك الشهادات الجامعية التي ساعدتهم.
وأشار أبو محمد إلى أن التاريخ يسجل بحسب تاريخ الحصول على الشهادة الثانوية إلا أنه وحين قاطعناه بالسؤال: لكنكم تمنحون تلك الشهادات لأشخاص لا يعرفون القراءة والكتابة وغير حاصلين على الإعدادية ؟ احمر وجهه وسكت مكتفياً بما تحدث به ورافضاً الكشف عن أسعار الشهادات لديهم بعد غضبه من مداخلتنا تلك.
إن النظام يساعد مؤيديه في المناطق الخاضعة لسيطرته ويؤمن لهم كافة الأوراق الثبوتية بل ويتدخل لأجلهم في التحصيل الجامعي ويتوسط لدى دكاترة الجامعات لكي ينجح مؤيدوه ويتخرجوا من الجامعات فلماذا لا نساعد بعضنا في الغربة ونكون عوناً للاجئين اللذين فقدوا كل شيء بحسب ما قاله غاضباً أبو مصلح من محافظة إدلب وهو يعمل في أحد المكاتب في إقليم هاتاي التركي.
ويحدد أبو مصلح سعر الشهادة الجامعية بحسب الكلية أو التخصص المطلوب والمراد الحصول على وثيقته وأحياناً بحسب الزبون وقال:”بالنسبة لنا نبيع الشهادات الأدبية كاللغة العربية والإنكليزية والفلسفة بـ150 $ أما الشهادات العلمية كالطب والهندسة فأسعارها أغلى حيث نبيعها بـ 250 $ وهناك مراعاة لبعض الحالات التي يقدرها المكتب”.
أحد المستفيدين من تلك الشهادات الجامعية بادر بالحديث عن حياته الدراسية والسنين التي ضاعت هباء منثوراً كما قال:”الغصة حين يتوقف قرار تخرجك من الجامعة على مادة واحدة أو بضع علامات ثم تضطر لترك البلد بسبب الحرب والخوف من الحواجز الأمنية التي تحتجز الشباب بشكل مستمر وعشوائي دون رحمة أو هوادة “.
ويضيف قائلاً:”وفي بلد اللجوء وجدنا المعاناة أمامنا ولا قيمة للإنسان إن لم يحصل على الشهادة فالفرص لحاملي الشهادات ونحن ممن يحملون الثانوية فقط ولا يعترفون بعدد سنوات الدراسة الجامعية وما من حل غير ذلك”.
لكنه يرى ضرورة وضع معايير للحصول على الشهادات ولا يجب أن تعطى إجازة في اللغة العربية مثلاً لمن لا يعرف الفاعل من الفعل على حد تعبيره.
ويعتقد مراقبون ومهتمون بهذا الشأن أن أسباب الانتشار الواسع لمكاتب بيع الشهادات الجامعية يرجع إلى التسهيلات التي تقدمها الحكومة التركية إلى اللاجئين السوريين والراغبين بإقامة مشاريع عمل والتي يتخفى تحت عباءتها مزورو وتجار تلك الشهادات في ظل غياب أي دور للسلطات التركية التي لم تتحرك بشكل جدي لمنع تلك الظاهرة المتمددة رغم وجود مبادرة خجولة من وزارة التربية التركية العام الماضي عندما تم الكشف على عشرات الشهادات المزورة في ولاية أورفا وحرمتهم التقدم لمسابقة المدرسين وكما أن الحكومة التركية لوحت لوجود تعاون بهذا الخصوص بين وزارة التعليم التركية والتعليم العالي في حكومة الأسد عن طريق الأمم المتحدة دون الكشف عن إيضاحات أو نتائج لتعاون قد حصل أم لا!.
مديرية التربية في ولاية هاتاي جنوبي تركيا تؤكد أن وزارة التربية التركية تسعى جاهدة لحل هذه القضية والكشف عن الشهادات المزورة بالطرق المناسبة دون أن يكشف عن تفاصيل بهذا الصدد.
بدوره أوضح أحد المسؤولين في ولاية هاتاي خلال زيارة غير رسمية قام بها محرر موقع مرآة سوريا أنه “لا يوجد طريقة لكشف بعض الشهادات الجامعية المزورة إلا عن طريق التعاون مع وزارة التعليم في حكومة النظام وهذا غير ممكن وجميع الأساليب الأخرى غير قانونية”.
ونشير إلى أننا حاولنا التواصل مع الدكتور عماد برق وزير التربية والتعليم في الحكومة السورية المؤقتة وآخرين من مسؤولي الحكومة للحديث عن الموضوع ولم نتمكن من تسجيل موقف محدد لهم من تلك الظاهرة التي تفشت بشكل كبير في تركيا ومنهم من رفض الحديث نهائياً عن الموضوع.
وأشار أبو سعيد الحموي وهو ناشط تربوي في ألمانيا إلى فقدان الثقة بمصداقية الشهادات الجامعية السورية دون استثناء وأصبح مزور الشهادة يوازي صاحب الشهادة الأصلية وكل الشهادات مشكوك بصحتها لدى الدول التي تجهل مستويات المقيمين على أراضيها وهذه مشكلة كبيرة وأصبح الموضوع هاجساً يؤرق الدول من جهة التعامل مع أصحاب الشهادات.
وكذلك بدأت بعض وزارات التربية والتعليم في دول عربية وغربية بالتنسيق والتعاون مع وزارات التعليم المختصة في حكومة الأسد من أجل معرفة حقيقة الشهادات الجامعية للاجئين السوريين والمقيمين على أراضيها وفق ما أكد الحموي.
ولا توجد إحصائية مؤكدة لأعداد السوريين من ذوي الشهادات الجامعية والكفاءات العلمية الحقيقية المتواجدين في تركيا إلا أن الحقائق تثبت وجودهم بأرقام كبيرة فمنهم الأطباء والصيادلة والمهندسون والمعلمون ممن يعملون في مختلف المجالات والتخصصات في القطاعين الخاص والعام في تركيا.
ويقيم على الأراضي التركية قرابة 3 ملايين لاجئ ممن يعيشون في المخيمات وفي المدن التركية ممّن يخضعون لقانون الحماية المؤقتة ويستفيدون من الخدمات الصحية المجانية التي وفرتها لهم الحكومة التركية من خلال مستشفياتها ومراكزها الطبية المنتشرة في المدن والبلدات إضافة إلى خدمات التعليم والمساعدات الإنسانية.