أم محمد و تكلفة رايات المظاهرات.. دمعةٌ مكبوتة و صحنُ جارةٍ فارغ!

برز خلال مظاهرات الجمعة الماضية عدد كبير من اللافتات و الرايات العائدة لتشكيلات عسكرية معارضة، في مناطق مختلفة شمال سوريا، فماذا لو أردنا تناول هذا الموضوع من ناحية أخرى؟

أتت فكرة كتابة هذه المقالة المقتضبة، من صوت للسيدة “أم محمد” تناهى إلى مسامع، رامي المحمد، مراسل مرآة سوريا في ريف حلب. كانت تقول:”شو فيا لو تبرعوا بحق هاللافتات المعتة لهالشعب؟!”.

أم محمد، أربعينية أرملة، قتل زوجها في معارك ريف حلب الجنوبي على جبهة الراموسة قبل أشهر، و تركها مع 4 أولاد، أكبرهم لم يبلغ الثانية عشرة من العمر.

و إلى جانب أبيها وأمها تسكن أم محمد بيت العائلة قرب بلدة كفرناها بريف حلب الغربي. ثلاثة غرف ليست بالكبيرة، و صالون لاستقبال الضيوف، غدا لاحقًا ممرًا لاستقبال النازحين من الأقارب و الأباعد، ريثما يتدبروا أمورهم.

تعمل أم محمد داخل منزلها بالصناعات اليدوية، برعاية منظمة مجتمع مدني، وفرت لها و لستين امرأة أخرى من الأرامل، هذا العمل الذي يؤمن لقمة العيش لعائلاتهنّ، و يكفيهنّ السؤال و كسر الكرامة.

تقول أم محمد بلكنة حلبية خالصة:”شفنا ما شاء الله الرايات عم ترفرف و اللافتات يخزي العين لا بتتأثر لا بمي و لا بشمس، و عليها كلمات طنانة رنانة، بس جارتنا اللي جنبنا أنا عم ابعتلا كل يوم أكلها، عجب مافي حدا يفطن فيها بصحن برغل؟”.

أم محمد تتكلم بنبرة هزلية لا تخلو من مرارة، هي تبتسم و لكنّ كلماتها تقطر ألمًا و حرقة، هي خريجة جامعة حمص- قسم اللغة العربية، و كانت معلمة لمدة سنة في إحدى مدارس الحسكة.

بات الناس يتجنبون الحديث عن الفصيل الفلانيّ، و آخرون يتجنبون الحديث عن العسكرة كلها، كلّ ذلك أتى نتاج الاقتتال الدموي بين الفصائل.

لم تمر الاقتتالات المتعددة التي شهدتها الساحة السورية مرّ الكرام بذهن الشعب، من يتجرّأ على سفك دم رفيق سلاحه، لن يردعه رادع عن سفك دم مدنيّ “لا سند له” إن انتقده أو أتى على ذكره بشيء من سوء، كما يرى الطيف الأكبر من الشعب.

يقول مراسلنا، إنّ تكلفة الرايات و التجهيزات في مظاهرة واحدة يتعدى 300 دولار، إذا ما كانت المظاهرة صغيرة، و يتعدى الـ 1000 دولار إن كانت كبيرة.

من لافتات الجمعة الماضية بمدينة إدلب – انترنت

في الآونة الأخيرة، لمحنا مظاهرات مسيسة -إن وفقنا في التعبير-، تهتف لفصيل معين دون آخر، و ترفع رايات فصيل دون رايات فصيل آخر، و الهدف منها بكل تأكيد الترويج لهذا الفصيل و شعاراته، و ليس الترويج لشعارات ثورية أو للثورة السورية ككل.

تحتاج عائلة مؤلفة من 5 أفراد في سوريا إلى نحو 150 دولارًا شهريًا إن أرادت العيش على البرغل والرزّ و الماء و بعض الخضار، و إلى 250 دولارًا إن أراد أفرادها أن يزودوا أجسادهم بقليل من اللحم في الشهر، ناهيكم عن حفاضات الأطفال و حليبهم، و عن شيء من الفواكه، و قليل من الحلويات!.

إن افترضنا أنّ في محافظة إدلب ريفًا و مدينة، و في أرياف حلب، يخرج الناس في 50 نقطة تظاهر فقط، هذا يعني أنّ تكلفة الرايات و تحضيرات المظاهرة قد يصل إلى 30 ألف دولار وسطيًا، أي ما يكفي لمعيشة نحو 150 عائلة لمدة شهر كامل!.

لم يكن كلام أم محمد عفويًا بقدر ما كان بريئًا، كان نابعًا من ألم حقيقيّ، تضيف إلى قولها:”كنت بإيدي اكتب بقلم اللوح ع الكراتين الشعارات.. هلق ما عاد تعجبهن الكراتين، صار بدن لوحات فليكس و مليكس و طباعة حرارية، رح ياخدوهن معن ع القبر!”.

و تعزيزًا لما أسلفناه فإنّ حالة من “الغضب الخائف” تعششت في قلوب الشعب، هم ينتقدون في دواخلهم الشعارات الفصائلية، يصفونها بالمقيتة، و الدخيلة، يستذكرون الشعارات الوطنية، الشعارات الدينية الواحدة التي كانت تهتف للتوحد لا الفرقة، ينتقدون امتهان الدين و آياته لأغراض حزبيّة، هم شعب بسيط،بريء، يتعافى من أربعينيّة دموية ربانها الأسد حافظ و ابنه، لم يكونوا ينتظرون من الثورة إلا أن تكون حبل مشنقة “للوريث القاصر”، فصدموا بأنّ للأسد ألف أسد يتمرّغ وسطهم، يطحنهم، يحطم عظامهم، و يتركهم منشغلين بتأمين لقمة العيش لأطفالهم.

لم تفلح أم محمد في إخفاء دمعتها، إلا أنّها لم تبدد ابتسامتها، تقول لنا إنها قوية، و الدمعة دمعة قهر و عجز، تداريها عن أبيها و أمها و أطفالها، هي قوية.. نعم أم محمد أقوى من كل حملة البنادق!.

 

أضف تعليق