‘الصمت’ عنوان قصصي صارخ للتغريبة السورية

في أحد حواراته الصّحافيّة التي أجراها في الولايات المتّحدة الأميركية، قال إدواردو غاليانو متحدّثا عن اجتياح أميركا للعراق “عندما كنتُ صغيرا…صغيرا جدّا، اعتادت أمّي أن تقول لي إنّ للأكاذيب أرجلا قصيرة. أوه أمّي المسكينة. كم كانت مخطئة. لم تكن تعلم أنّ للأكاذيب أرجلا طويلة طويـلة جدّا. وهي تعدو بشكل سريع، أسرع حتّى من الكذّابين أنفسهم”.

النظر في الصمت

في مجموعته القصصيّة، يعرّي عدي الزعبي أكاذيب كثيرة تحاكُ حول أوضاع السّوريّين ومعاناتهم. يقدّمها بمزاج رصين قاتم في كتاب يحمل عنوان “الصّمت”.

ويتقدّم القصص الثّماني التي تشكّل متنَ الكتاب، الصّادر عن دار المتوسّط (سلسلة براءات، 2016)، استهلال شعريّ يتأمّل الصّمت وعلاقاته بالكائن الحيّ كما يفتح دلالات عميقة في الكتاب تضيء عتبته الأولى (العنوان) وامتدادها في القصص. يقول في مفتتح هذا الاستهلال “للصّمتِ معان متعدّدة وأشكال مختلفة/ نصمتُ عندما لا نعرفُ ماذا نقول، ونصمتُ إنْ قيل كلّ ما نريد قوله/ نصمتُ عندما يفهمنا الآخرون، ونصمتُ إن لم يفهمنا أحد…”.

ويختتم الاستهلال على هذا النّحو “نصمتُ عندما نسمع الموسيقى، وعندما نقرأ الشّعر وفي السّينما/ نصمتُ دائما في القبل/ الموتى وحدهم، لا يصمتون”.

كأنّ الصّمت هو الدّليل الذي نحتاجه لنتأكّد من أنّنا لا نزال أحياء. نتأثّر بعمق، نتفاعل مع الجمال والشّرّ اللذين يحيطان بنا والحيرة والشّوق اللذين يصهدان دواخلنا. وهذا هو حال شخصيّات المجموعة أو جلّها. تصمتُ كلّ منها على نحو مختلف وفي سياقات متباينة، بعضها خوفا أو حرجا وبعضها سخطا أو “تعبا وحيرة”.

“تجوّلنا بصمت لساعة أو نحو السّاعة”، من قصة “المتنكّرون”، “تأتي ندى وتجلس في حضن سمر بصمت”، من قصة “قطعة البرتقال الأخيرة”، “تبدو تمارى كمن يحاول قول شيء لا يقال. تنهي المحادثة…” من “بقعة الدّبق، “أجد صعوبة في التّواصل مع الآخرين، كلّ الآخرين، تهمس كارن/ أحيانا أجد من السّهل أن أتواصل مع البعض دون كلام، أحيانا معك”، من قصة “الوحيدان” التي نجد فيها أيضا “تصمت للحظات. أحاول أن أقول شيئا/ لا داعي لقول ما لا يقال”.

شخصيات المجموعة صامتة كل منها على نحو مختلف وفي سياقات متباينة، بعضها خوفا أو حرجا وبعضها سخطا أو تعبا

تصمتُ شخصيّات الزعبي ويصمتُ هو معها، إذْ يحضر اسم المؤلّف باعتباره اسم الشّخصيّة السّاردة مرّات عديدة في الكتاب، لأنّ الصّمت هو البقعة الوحيدة المتبقّية لمن يقاوم الموت، من تعلو تجربته في التّشرّد خارج وطنه وخسرانه لأهله وأصدقائه ومصيره فوق قدرته على التكلّم والقول.

في معظم القصص ينزع السّارد إلى مزج قصّتين متوازيتين ومتداخلتين في آن واحد. عادة ما تستندُ واحدةٌ منهما إلى عينه المتفحّصة الشّبيهة بكاميرا تلتقطُ العلامات، كما هي ضمن ترافلينغْ ذي إيقاع بطيء. وتترك لرمزيّة هذه العلامات أن تلقي بظلالها ودلالاتها الحافّة في القصّة الأولى التي تتدفق غالبا في حوارات هيمنت عليها لهجة السّوري سواء كان في بيروت، تركيا أو لندن، ثمّ يستمرّ الكاتب في المضيّ من حكاية إلى أخرى في الاتّجاهين مستخدما الاسترجاع والحوار الباطنيّ…إنّها عينٌ صامتةٌ. تنسخُ المرئيّ بدقّة في الوصف تدّعي مسافة ما، لكنّها تهرّب رؤاها مثل لاجئين بشكل موارب وخافت.

في قصّة “الوحيدان” مثلا، يأخذنا السّارد في جولة ضمن متحف للفنّ بأوروبا. ويركّز تأمّله في لوحة تحمل عنوان القصّة لمونش. يصف اللّوحة التي تتضمّن رجلا ينظر إلى امرأة، “أمّا المرأة فمأخوذة بالبحر”. تصف كاميرا السّارد تجوّله في المتحف إذ يعود في كلّ مرّة ليتأمّل اللّوحة نفسها. هذه الحكاية تأتي متقطّعة يتخلّلها استرجاع لحوارات مع كارن حبيبة السّارد الأوروبيّة. مع تقدّم القصّة نتمثّل أيّ تواز يقوم بين السّوريّ المهجّر والمنفيّ وبين الرّجل الذي في اللّوحة، أيّ شبه بين المرأة التي تنظر إلى البحر وبين كارن.

كلّ هذا يصلنا في صمت. إذ يكتفي القاص بلعبة التّداخل والمزج في لغة إيحائيّة تميل إلى الكناية والتّورية. تنتهي القصّة على النّحو التّالي “أفتح الباب/ أخرج على مهل/ أسمع صوت الباب يغلق خلفي/ يلتفت الرّجل ويبتسم لي/ يأخذ حجرا من الشّاطئ ويلقيه في البحر بشقاوة مراهق/ يسير بخفّة حتّى يختفي في يسار اللّوحة/ تبقى المرأة وحيدة تتأمّل البحر الممتدّ إلى ما لا نهاية”.

تغريبة السوريين

رغم أنّ معاناة السّوريّين وأخبار الثّورة تمثّل خلفيّة الأحداث، إلاّ أنّ ذلك هو ادّعاء فنّيّ يتملّكه صاحبه جيّدا. ففي الحقيقة ليست الحكاية الكبرى التي تنتظم السّرد، مثل الخيط الذي يتخلّل الخرز في المسبحة، سوى مأساة السّوريّين وتغريبتهم.

الشّخصيّات جميعها لاجئون سوريّون يقفون في المنزلة بين المنزلتين. لا هم في أوطانهم ولا هم يستطيعون الانتماء إلى الخارج الذي يمارس رفضه بدوره عليهم. ويجلي عدي ذلك في أشدّ العلاقات حميميّة: الحبّ والصّداقة والقرابة العائليّة… بل يعود ليكشف ما ينخر هذا الإنسانيّ العميق من الجهة السّوريّة. فكم من سوريّ صدّق الأكاذيب الرّسميّة عمدا أم جهلا يخلع صاحبه وحبيبته وأقاربه بسبب من ذلك. يمضي الكاتب في نحت مناخ قاتم ذي

هواء ثقيل يجعلك تقترب من كينونة السّوريّين في لغة صافية من دون شعاراتيّة أو حذلقة. إنّه لاعبٌ فخّه أنّه يلاعبُ آلامه في صمت على نحو يجعلك لا تلاحظ لعبه ذاك. بل تستنفد قلبك في “بقعة الدّبق” التي ترشح في صوته.

قد لا تكون هناك كلمات أشدّ إضاءة لقصص عدي المؤلّف والسّارد في هذا الكتاب أكثر من كلماته هو التي حضرت في مقال له عنوانه “مرثيّة” يقول فيه “المنفى، مع دخول الثورة السورية عامها الخامس، يشكل أبرز عناوين السوريين. لا يستطيع السوري، اليوم، أن يفكر بنفسه دون منفى. لكل منا قصة وحكاية: البعض لم يغادر، إلا أنه يعيش منفاه في الداخل؛ والبعض غادر ولم يقبل المنفى؛ وآخرون قبلوا المنفى ولكنه لم يقبلهم. أصدقاؤنا وعائلاتنا يتوزعون في جهات الأرض الأربع. يختلط الخارج والداخل والهوية والغربة والشرق والغرب والشمال والجنوب في قصص تكبر كل يوم“.

هذا هو الصّوت نفسه الذي يخترق المجموعة القصصيّة في صمت قائلا إنّه لا عجب في الأمر. ولا حاجة لمواربة ذلك. أنا هو المؤلّف وأحد “أبطال” هذه القصص بكلّ بساطة. سوريّ تستغرقه بحوث الفلسفة والفنّ والكتابة والتّرجمة. اسمي عدي الزّعبي. واحد من بين كثيرين تمزّقهم هذه التّغريبة. وهذه مجرّد نتفة صغيرة من مأساتنا.

 

العرب

أضف تعليق