لا بأس بنشر ذكريات سنوية خاصة ومشاركتها مع أصدقائك على الشبكات الاجتماعية، لكن ما يمثِّل مشكلةً حقيقيةً هو نشر كل الأمور الخاصة بك بشكل يومي، كأن تقول “أنا ذاهب اليوم للقاء صديقي في مطعم كذا”، “الآن أنهيت مشاهدة فيلم كذا”، “تناولت في الغداء وجبة برغر”. متى آخر مرة قمت فيها بنشر صورة توضح أن يومك قد سار بشكل سيء على إنستغرام؟ متى آخر مرة استمتعت بصحبة الناس في مكان عام من دون إعلانك عن وجودك في هذا المكان على الفيسبوك؟ ومتى آخر مرة غردت تغريدة تبين فيها أن حياتك ليست بتلك السعادة التي تزعمها، متى قمتِ بنشر صورة لك من دون مساحيق للتجميل ووصفتِ الصورة بأنك تشعرين بأنك جميلة كما أنتِ؟ الإجابة: نادرًا، بل والكثير سيجيب بأنه أبدًا.
لم تصمم الشبكات الاجتماعية للتركيز على ما يدور بداخلك، بل لتصبح مساحةً مشتركةً للتواصل مع الآخرين.
ويقول المؤلف والخبير النفسي، داون مايكل، “في فيسبوك، على سبيل المثال، يجمعون كل ما يخص ماضيك، ويرسلون إليك تحديثاً سنوياً (أو كل عامين أو ثلاثة، أو كل عدة سنوات) عن كل ما فعلته خلال ذلك الوقت، في ما يُعرف بخاصية On This Day، لذا كن على وعي بما تكتبه عبر هذه الوسائل، فربما تُسبب لك الأذى في ما بعد”.
تساعدنا الحياة على الشبكات الاجتماعية الصاخبة على غرار إنستغرام وفيسبوك وتويتر وسنابشات في التحكم في الصورة التي نقدمها للآخرين عن ذواتنا، ومن السهل جداً أن تتظاهر بكل ما هو إيجابي، رغم أن هذا بالطبع ليس صحيحاً، إلا أن ذلك التفاعل لا ينفذ إلى الجوانب السلبية في شخصياتنا.
كانت الفكرة التي بُني عليها إنستغرام في بداياته هي قطع جزء صغير من صورة كاملة والتركيز على تفاصيلها والمعنى الجمالي فيها، قبل أن يتحول إلى منصة لعرض “الجمال والكمال”.
لقد أصبحت فكرة التحكم شيئًا طبيعيًا الآن، يمكنك بسهولة محو أي صور لا تعجبك نفسك فيها، أو حذف كل ما يتعلق بك ويظهرك على حقيقتك، لكن الواقع هو أن غالبية الأشخاص ليسوا بنفس كمّ السعادة البادي عليهم في صورهم الباسمة على فيسبوك وإنستغرام. وهذا ما تؤيده منظمة “National Alliance of Mental Illness” المختصة بالصحة العقلية، والتي تقول إن واحداً من كل خمسة أشخاص يعاني من مشاكل في الصحة الذهنية.
وبحسب الباحث جورج نيتزبرغ، يكمن الخطر الحقيقي لوسائل التواصل الاجتماعي في “المقارنات الاجتماعية” التي نخوض فيها عندما نقارن حياتنا ومظهرنا بما يظهره الآخرون عن حياتهم ومظاهرهم، وشعورنا بأن غيرنا ينعم بالسعادة أكثر منا.
الخطر الحقيقي لوسائل التواصل الاجتماعي يكمن في (المقارنات الاجتماعية) التي نخوض فيها عندما نقارن حياتنا ومظهرنا بما يظهره الآخرون عن حياتهم ومظاهرهم، وشعورنا بأن غيرنا ينعم بالسعادة أكثر منا
كانت عارضة أزياء بريطانية زعمت فقدانها الآلاف من المتابعين من حسابها على إنستغرام، بعد ما استبدلت صور السيلفي وعروض الأزياء بصور أخرى يومية أكثر واقعية لها.
ستينا ساندرز عارضة أزياء مقيمة بلندن ومدوّنة مهتمة بالأزياء، عملت في حملات دعائية لكبرى الشركات مثل “لوريال” و”نايك”، بالإضافة إلى شهرتها على إنستغرام حيث يتابعها المئات من الآلاف.
تواصلت صحيفة الدايلي ميل مع ساندرز لتقوم بتجربة حول رد فعل متابعيها على إنستغرام في حال نشرها صوراً طبيعية لها، هذه التجربة تأتي بعد تجربة العارضة إسينا أونيل، التي قررت الابتعاد عن الشبكات الاجتماعية بعدما كشفت أن معظم صورها على الشبكات الاجتماعية ليست طبيعية وإنما مصطنعة.
وقامت ساندرز بنشر صور لها وهي تزيل شعر الوجه، بالإضافة إلى صور لأظافرها المتكسرة وقبل أن تستحم.
كما نشرت ساندرز سيلفي لها قبل الدخول إلى عيادة الطبيب النفسي الكائنة في شارع هارلي بلندن، حيث تتلقى جلسات للعلاج من القلق، وكتبت عارضة الأزياء “شارع هارلي ليس لإصلاح الأنف أو الثدي فقط، إنما لإصلاح المخ أيضاً”.
العارضة البالغة من العمر 24 عاماً، قالت لصحيفة أنديبندنت “لقد وافقت على التحدي، لأني أعلم مدى زيف الشبكات الاجتماعية، وكيف أن الصورة بإمكانها تصوير الشخص بشكل مختلف تماماً عن الواقع؛ لذا أردت الكشف عن حقيقة الحياة وراء القناع. حياتي ليست جميلة كما يظن البعض، فأنا أعاني من القلق وعندي أخ ذو احتياجات خاصة. لا يوجد أحد كامل”.
وعقب نشر ساندرز صوراً طبيعية لها بدلاً من السيلفيهات وصور البكيني، تفاجأت بفقدانها الآلاف من المتابعين من على حسابها في إنستغرام.
تقول العارضة “خلال التجربة فقدت 3000 متابع، وفي نهايتها فقدت 5000، لقد صُدمت بسبب اعتقادي بأن الإعجاب فقط هو ما سيقلّ وليس عدد المتابعين”، وأضافت “ما أعجبني هو أنني حزت على الكثير من الإعجاب والتعليقات من جانب النساء، ما يعد دليلاً على تفهمهم لي”.
ساندرز أشارت إلى التأثير السلبي للشبكات الاجتماعية على البنات الصغار والعارضات اللائي يسعين إلى الكمال، كما أعربت عن سعادتها للمردود الإيجابي الذي تلقته من بعض المتابعين”.
وكانت دراسة حديثة أعدتها شركة “دوف” المختصة في مجال مستحضرات العناية للمرأة، كشفت أن حوالي 82 ٪ من النساء الآن يعتقدنَ أن مواقع التواصل الاجتماعي أضحت تؤثر على كيفية تعريف المجتمع للجمال.
كما نشر محرك غوغل تقريراً قال فيه إن أكثر الأسئلة المطروحة كانت متعلقة بالجمال.
التحكم في الصورة التي نقدمها للآخرين عن ذواتنا
من جانب تقول أونيل إننا جيل تم غسل أدمغته أكثر من مرة، وإننا مُستخدمون لغرض الاستهلاك، لا يوجد غرض خلف أي صورة عرضتها سوى أنها كانت تقوم بتسويق نفسها، تمامًا مثل السلعة، خلف كل صورة هناك الكثير من التلاعب والكثير من عدم الثقة والقليل من الحقيقة، لا يتم التقاط كواليس الصورة؛ المحادثات الطويلة التي يخوضونها وهم منتظرون طلوع الشمس أو غيابها، تلك هي الحياة الحقيقية، وليس الكذب الذي يتم عرضه في الصورة، الكمال تتم صناعته، وهذه كذبة خطيرة، الكمال يُصنع من أجل جذب الانتباه، وهذا ما لا يجب أن يكون عليه الكمال، مواقع التواصل الاجتماعي استهلكتها، لذا قالت لها وداعًا إلى الأبد.
وأضافت “عندما تنظر إلى صور فتيات الإنستغرام وتتمنى أن تمتلك حياتهن فإن كل ما تم تصويره هو بالضبط ما يُراد أن تراه، وليست الحقيقة، الأمر مدفوع برمته، ولا خطأ في تسويق المنتجات، أنا لا أجد عيبًا في ذلك، ولكن لا هدف من تلك الصورة، لا هدف من أن يتم إجباري على إظهار ابتسامة ساحرة، ولا هدف من أن أرتدي ثيابا ضيقة ويتم تأجيري لأكون جميلة، نحن الجيل الذي يتم استغلالنا من أجل استهلاك البضائع، من دون تفكير في الأمر؛ من أين تأتي البضائع وإلى أين تذهب؟”.
حملة أخرى لفتاة قررت نشر صور لها من دون أي مساحيق للتجميل على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لاقت تفاعلًا من قرابة 100 ألف تعليق، على غرار “أنا لا أستطيع النظر إليك”، “وجهك قبيح جدًا”، “مقرفة”، “بشعة”. وحين وضعت الفتاة مختلف مساحيق التجميل على وجهها لإخفاء عيوبها، تحولت التعليقات إلى “أنتِ جميلة”، “أنتِ رائعة”، وحتى “أنت كاملة”.
ولكن لم يسلم الأمر، ليأتي المهاجمون بتعليقات مثل “هذا كذب”، “هذا إعلان غير قانوني”، “أنت لا تثقين في نفسك”، “مازلت قبيحة”، “لن أثق في فتيات مساحيق التجميل بعد الآن”، إلى أن ينتهي الإعلان بالشكل الأصلي للفتاة مع عبارة أنت جميلة.
العرب