ويأتي السؤال بصيغة التأكيد لا الاستفهام فلا يطرح السؤال مثلاً بصيغة هل يكذب النظام؟ لأن الكذب صفة أساسية له ولا تحتاج لإثبات، وينقلب السؤال للبحث عن أسباب مبالغة النظام في الكذب لدرجة غير معقولة وصلت لحد الإسفاف وعدم احترام عقول الجميع من مؤيدين ومعارضين وسياسيين وإعلاميين، فالنظام بات يكذب الأن بصفاقة مشهودة ومسجلة له، والغريب في الموضوع أنه يكذب ويعرف أنه يكذب لكنه يتصرف وكأنه أكبر المصدقين لما قام بفبركته من أكاذيب.
يريد النظام من الأخرين أن يصدقوا أكاذيبه الكبيرة ورواياته المثيرة لا بل وأن يسلموا بها واعتبارها من الحقائق الدامغة التي لا تحتاج لإثبات أو دلائل طالما هي صادرة عن رأس النظام وألته الأمنية والإعلامية.
محاولة فهم وتفسير أسباب كذب النظام تعني الولوج في مسارات غامضة تؤدي إلى دهاليز مظلمة يجلس فيها من يتحكمون بدائرة القرار في النظام لا بل يمكن القول أنهم هم النظام نفسه، وتتحول إلى محاولة لما يشبه الانتحار لمن يفكر بها، فالنظام لن يسمح لأحد بفهمه وتفكيكه، ولذلك جاءت الكتب و الدراسات التي تبحث في بنية النظام سطحية ولا تتحلى بالعمق والتحليل، واعترف معظم الباحثين الغربيين في ماهية النظام عن فشلهم في اكتشاف أليات عمله وتركيبته التي استعصت على ما يملكونه من معرفة ووسائل حديثة في التفكيك والتحليل.
تجربتان مأساويتان تلخصان كيف يتعامل النظام مع من يحاول الإجابة على السؤال، الأولى خاضها المرحوم سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة الحوادث اللبنانية عندما بدأ يكتب حلقات بعنوان لماذا يكذب النظام؟ لكن أجهزة أمن النظام اختطفته وهو قادم لحضور جنازة والدته ومن ثم قامت بتعذيبه بشكل بشع قبل أن تقتله ويحضر مندوب النظام في لبنان جنازته، وانتهى بموت اللوزي انتظارنا وقتها لما كان سيكشفه لنا من أشياء مرعبة عن النظام.
اقرأ: بشار الجعفري الحكومة السورية لا تقصف المدنيين
أما التجربة الثانية فقد خاضها عالم الاجتماع والصحفي الفرنسي ميشال سورا الذي كرس حياته لملاحقة خفايا النظام فكان مصيره مماثلاً تماماً لمصير سليم اللوزي في الاختطاف ثم القتل، ولم يبقى لنا من أعمال سورا سوى مقالاته التي جمعت في كتاب باسم سورية الدولة المتوحشة. دفع اللوزي وسورا حياتهما في سعيهما للبحث عن الحقيقة من أجل الشعب السوري، بينما جعل منهما النظام درساً عملياً قاسياً لمن يحاول أن يكرر عملهما، ويصبح تفسير اغتيال النظام للناشطين السلميين في بدايات الثورة، كالشهيد غياث مطر والشهيد هادي الجندي وغيرهم من الشهداء، والتركيز على ذلك أمراً سهل التفسير مقابل إطلاقه سراح معتقلين خطرين عليه من سجونه في نفس التوقيت فالنظام لا يخشى البندقية ولكنه يخشى الكلمة والموقف الذي يكشف كذبه أكثر من أي شيء أخر
نظام غير مسبوق تاريخياً، هو نظام شمولي باطني عميق، يماثل الأنظمة الشمولية من خلال البروباغاندا المعروفة التي تمجد القمع والتسلط وتحولهما لإنجازات وطنية، لكنه يتفوق على تلك الأنظمة بباطنيته وغموضه الشديد الذي ربما يكون قد استمده من باطنية أفراد الطائفة الممسكة بزمام الحكم، وربما هناك يقع مركز السر المقدس للنظام والطائفة معاً والذي لا يسمح لأحد كان بالاقتراب منه أو الحديث عنه، ومن هنا تأتي فرادة النظام الغير مسبوقة ضمن العلوم السياسية.
أي نظام إذاً هذا الذي ابتلي به السوريون، نظام يكذب ويعرف أنه يكذب ولكنه يصدق نفسه ويفرض على الأخرين تصديق أكاذيبه في الصمود والمقاومة والممانعة ومقاومة الاستعمار والامبريالية ودعم حركات التحرر في العالم، وأكاذيبه في التنمية والبناء ومسيرة التطوير والتحديث والشفافية والعلمانية وعدم الطائفية والوحدة والحرية والاشتراكية.
حياة السوريين بنيت على أكاذيب مستمرة منذ انقلاب أذار وصولاً لاستلام أل الأسد للحكم، ولا حل سوى باقتلاع النظام الذي اقترف جريمة العصر ليس في القتل والاعتقال والتعذيب والتدمير والتهجير فحسب، بل بتغيير ممنهج لأذهان السوريين وتفكيرهم حيث قام بأكبر جريمة جماعية لغسيل للدماغ في التاريخ، ولا يبقى أي معنى للبحث في أي شيء سوى أخر إسقاط الأكاذيب التي يقوم عليها النظام أو إسقاط الغرف السرية التي هي النظام نفسه، ربما بعدها تبدأ مسيرة السوريين في التعافي والشفاء ودون ذلك سيستمر البلاء والعناء.