لا تزال حقيقة ما غامضة حول انطلاقة الثورة السورية، فرغم مشروعيتها وتوافر كافة الأسباب الموضوعية والمنطقية لها، إلا أن الغريب هو لماذا لم يقم النظام باستيعاب الاحتجاجات الأولى وهو قادر على ذلك بسهولة قبل توسعها وانتشارها ونشوب حالة من التضامن الشعبي والعشائري معها في درعا وخارجها، كما لا يفهم أسباب استفزاز عاطف نجيب للأهالي بشكل مقصود بدلاً من محاولة امتصاص غضبهم عبر شخصيات عشائرية فاعلة ومؤثرة يمتلك تحالفات معها.
النظام هو صاحب تفعيل دور العشائر بشكل واسع في سورية رغم تناقض ذلك مع توجهات ومبادئ حزب البعث وتوجهات النظام المعلنة في التقدمية والعلمانية ومحاربة كافة النزعات تحت الوطنية وعلى رأسها العشائرية.
لجأ النظام لذلك في سبيل تعزيز سيطرته على العشائر وضمان ولائها التام وقام بدعم وإبراز شخصيات عشائرية وتكريس زعامتها ومشيختها العشائرية مقابل ضمانها لولاء العشيرة، وقد تمتع شيوخ العشائر بامتيازات ومكاسب اجتماعية ومالية وسياسية واسعة مقابل دورهم في خدمة النظام، وقد منحهم النظام كوتا في مجالسه التمثيلية مثل المجالس المحلية ومجلس الشعب، كما أعطاهم سلطة على أفراد العشيرة عبر نظام قضائي محلي خاص بهم وسمح لهم باقتناء أسلحة لتوفر لهم الحماية الذاتية.
اقرأ: “المعارض” نواف البشير في “حضن الوطن”
لكن شيوخ العشائر باتوا مصدراً للاستفزاز العام لما يحظون به من نفوذ وقوة وثراء ناتج عن استغلال علاقاتهم الحميمة مع الأجهزة الأمنية وقيامهم بنشاطات بشكل غير قانونية كتجارة المخدرات وغيرها من الصفقات المشبوهة، ويضاف لذلك دور ممثلي العشائر في مجلس الشعب الذي كان هزلياً وصادماً لدرجة أن تم إطلاق مجلس التصفيق أو التهريج على مجلس الشعب بسبب ما كان يقوم به ممثلو العشائر من إسداء المديح المجاني المكشوف لرأس النظام في أشعار وأقوال أشبه بالتهريج.
إضافة لذلك فقد استفاد النظام من وجود بعض الشخصيات العشائرية لتقديمها أمام دول الخليج لإظهار اهتمامه بامتدادات العشائر وأصولها.
على الدوام كانت مصالح أفراد العشيرة أخر اهتمامات شيوخها سوى في نطاق ما يفيدهم، ورغم ذلك فإن أبناء العشائر كان يعنيهم كثيراً وجود شيخ قوي لهم يعبر عن قوة العشيرة ووجاهتها أمام العشائر الأخرى.
لعب شيخ طي محمد الفارس دوراً مهماً في التصدي المبكر لانتفاضة الأكراد في القامشلي عام 2004 ما جعل بشار الاسد يكرمه شخصياً، ثم جعل علاقته مع النظام أقوى وأمتن بعد نشوب الثورة، فقد شكل الشيخ الفارس ميليشيات محلية تابعة للدفاع الوطني المدعومة من النظام والتي استطاعت تأمين مناطق واسعة لصالح النظام في القامشلي وحولها بالتعاون مع الميليشيات الكردية في المنطقة، كما أن محمد الفارس قام بحشد مشايخ العشائر والقبائل الأخرى في اجتماع كبير لإعلان ولائهم للنظام وبشار الأسد، وليس الشيخ محمد الفارس هو الوحيد الذي فعل ذلك فهناك شيوخ غيره في مناطق أخرى استمروا في تعاملهم مع النظام بعد الثورة ولعبوا أدواراً سلبية ضدها، مثل آل بري والماشي في حلب وطراد الملحم في حمص.
قامت شخصيات عشائرية سياسية معارضة بتأسيس تجمعات باسم العشائر بهدف تصحيح الصورة السيئة التي رسمها المتعاونون مع النظام وبهدف تأطير الحراك الثوري العشائري وتوفير الدعم له، ورغم الدعم الذي تلقته من دول الخليج إلا أنها لم تشكل تأثيراً عملياً يذكر على مسار الثورة، وبرز من الشخصيات العشائرية في المعارضة نواف البشير وعبد الإله الملحم وسالم المسلط وأحمد الجربا، وقد شكلت عودة البشير إلى صفوف النظام انتكاسة قوية في صفوف المعارضة وظهرت تساؤلات حول حقيقة انشقاقه ووقوفه مع الثورة، وكذلك ظهر تغير واضح في مواقف رئيس الائتلاف السابق أحمد الجربا رغم بقائه في صفوف المعارضة بعد عمله ضمن محور الإمارات مصر، بينما احتفظ المسلط بصفته القيادية المعارضة واختفى دور عبد الإله الملحم.
لا شك بفعالية مشاركة العشائر في الثورة ودفعها لتضحيات باهظة، ولكن في المقلب الآخر لا يمكن تجاهل حالات التعاون مع النظام التي شكلت ضربة قاسية للثورة.
لا يزال شيوخ العشائر يبحثون عن موطئ قدم في سورية الجديدة سواء مع النظام أو المعارضة، ولا يمكن لهم أن يتخلوا عن دورهم ولا عن مكاسبهم الكبيرة التي ساعدهم النظام على اكتسابها، ولذلك شهدنا وسنشهد حتماً تشكيل محاولات كثيرة لاحتواء القوى العشائرية ضمن قوى أو ميليشيات أو جيوش وصحوات، وسيتحول ذلك كضرورة لا بد منها للعشائر للحفاظ على هويتها أمام تفتت الهوية الوطنية وأمام عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي الواسعة.
لا تخفى الانتهازية لعدد كبير من شيوخ العشائر ولا يمكن تعميم الحالة بالطبع، ويجب على الشخصيات العشائرية التحلي بروح المسؤولية في مرحلة وطنية حساسة، يمكنها الحفاظ على النسيج العشائري دون المساس بالنسيج الوطني السوري، والأهم أن تنتهي كافة الحالات تحت وطنية في سورية وفي مقدمتها العشائرية.