لا يمكن الركون للأسباب التي أعلنتها السلطات الهولندية لمنع هبوط طائرة وزير الخارجية التركي على أراضيها حيث كان ينوي الالتقاء بالجالية التركية في هولندا في مهرجان لتأييد التعديلات الدستورية في تركيا، وجاءت تلك الحادثة مباشرة بعد رفض السلطات الألمانية منحه الإذن لزيارة ألمانيا لنفس الأهداف، يمكن تصنيف الحادثتين ضمن سياق التوتر المستمر في علاقات تركيا مع دول الاتحاد الأوروبي والذي ازداد بشكل كبير بعد فشل المحاولة الانقلابية في تركيا، والجديد والغريب هذه المرة هو الرد الهولندي والألماني القاسي وأسلوبه المباشر الذي تجاوز التوقعات والذي واجهته الجالية التركية بمظاهرات وردود أفعال غاضبة وانتقلت الاحتجاجات للشارع التركي بسرعة.
تشير حادثة روتردام لتوسع شقة الخلافات بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي وتحولها للصدام العلني وهي تفرض جملة من التحولات المنطقية القادمة في العلاقات بين الطرفين خاصة في موضوعين اساسيين :
مسألة انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي والتي مرت بمراحل متفاوتة من التقدم والتراجع لتصل في محطتها الأخيرة لقيام الاتحاد الأوروبي بتعليق مفاوضات الانضمام وعدم اكتراث تركيا لذلك في ضوء مواقف مترددة وضعيفة من الاتحاد لدعمها والوقوف معها بعد تعرضها لمحاولة الانقلاب الفاشل والذي باتت تركيا تتهم الغرب بالضلوع فيه ومساندته.
باتت استمرارية عضوية تركيا في حلف الأطلسي مهددة في ظل عدم تضامن الحلف عسكرياً معها ضد حربها على المنظمات الكردية الانفصالية التي تهدد أمنها القومي وعلى النقيض ظهرت مواقف لبعض دول الحلف في تأييد لحزب العمال الكردستاني، ولمواجهة تخاذل الحلف في دعم تركيا اضطرت لإبرام اتفاقيات مع روسيا بدأت تتحول لتحالفات استراتيجية مما جعل غضب الغرب يزداد أكثر ضد تركيا، وربما لا تكون حادثة روتردام سوى رسالة للأتراك ضد تحالفاتهم مع روسيا.
هناك طرفان سيعملان على الاستفادة بشكل مباشر من الحادثة وتجييرها لمصالحهما :
اليمين الأوروبي المتطرف الذي يعتمد في كسب أصوات الناخبين على تأجيج مشاعر العداء والكراهية للأجانب بشكل عام والمسلمين بشكل خاص، وتمثل حادثة روتردام فرصة مناسبة لليمين المتطرف لتأكيد نظريته حول عدم اندماج الجاليات المسلمة في المجتمعات الأوروبية واستمرار ولائها لبلدانها الأصلية.
ستؤكد حادثة روتردام ما يعلنه حزب العدالة والتنمية لجمهوره باستمرار عن مؤامرة الغرب ضد تركيا وضلوعه في الانقلاب الفاشل، وستجلب الحادثة تأييداً أوسع من الأتراك للتعديلات الدستورية المقترحة على خلفية وقوف الغرب ضد تعديل الدستور وتدخله في الشؤون الداخلية لتركيا، ورغم عدم التأثير الكبير لأصوات الجالية التركية على نتائج الاستفتاء الدستوري إلا أن إصرار المسؤولين الأتراك على المواجهة مع الغرب لأجل مشاركة في فعاليات للجالية يشير إلى رغبة في إظهار القوة والصمود في وجه الغرب واستثمار ذلك في الحشد والدعم لصالح التعديلات الدستورية.
في مواجهة استباقية عنيفة مع دول الاتحاد الأوروبي مد أردوغان يده للروس كبديل وشريك استراتيجي محتمل وما دفعه أكثر نحو تفضيل الدب الروسي هو المواقف الأمريكية الأخيرة المساندة للأكراد في الشمال السوري ومنبج تحديداً والتي جاءت ضد المصالح القومية التركية.
إضافة لما خسرته تركيا من تحالفات سابقة مع الغرب لم تنجح حتى الآن في بناء تحالفات قوية بديلة، وتتضح الآن أسباب انسحاب أحمد داوود أوغلو عراب السياسة الخارجية التركية من المشهد عندما شعر أن تركيا فقدت عمقها الاستراتيجي الذي كان نصب عينيه الوصول إليه وتحويل تركيا لدولة إقليمية كبرى في المنطقة.