لم يحمل الإسلامُ يومًا أيَّ إهانة للمرأة، بل جاءتْ قواعدُه وتشريعاته رافعةً من قدرها ومكانتها، محاربةً لضروب الاستعباد والرِّق التي كانت تُضطهد المرأةُ بها، ومِنْ موطئٍ لقضاء الشهوات لشقيقات الرجال ولشريكات حياة بل وحتى لمراكز صناعة القرار والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، فكم من مظلمة بُليتْ بها فأزاحها الإسلام من على كاهلها، فحفظ لها حقوقها وفرض على المساس بأيِّ منها أحكامًا وعقوبات، فحرَّم وأدها، وحكم على قاتِلها بالقتل، وجعل لها مهرها حقًّا خالصًا لا ينزعه إلا ظالم، وضمن لها حقها في الميراث وجعله فريضة من الله نافذة، وأمر بحسن عشرتها، فقال هذه الكلمة الطيبة الجامعة: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، ليأتي زمنٌ يروق للمرأة فيه أن تعود لعصر الجاهلية تحت مسميَّات كثيرة برَّاقة، تسلبُ منها عزًّا ومهابة أولاها الإسلامُ إيَّاها، فتُمتهنَ وتُهان، وتسيء إلى إرث صحابيات جليلات، وأمَّهاتٍ للمؤمنين، وتُسلِّم نفسها لهوى رجالٍ ليسوا برجال، ولِوَهْمِ حقوق ابتدعوها ظلمتَها بقدرِ ما أوهمتها، وسلبتها أغلى ما أعطاها الإسلام: عِفَّتَهَا.. كان هذا الكلام يدور في رأسي وكنتُ مطرقًا أفكر، حتى رنَّ هاتفي ليعلن استراحةً عن التفكير.
اتصالٌ جاء من صديقٍ لي يدعوني لأحد المقاهي القريبة من الجامعة ويريد أنْ يعرِّفني لصديقين له: كنديٌّ وكوريّ، وأصرَّ على مجيئي للحديث إليهما، وخصوصًا أنَّ الكنديَّ يتحدث الفرنسية التي أُتقنُها، وكان قدْ أخبرهما برغبته بتقديم صديق لهما لتبادل الآراء والخبرات حول ثقافاتنا المختلفة، بحكم التجربة والاطلاع، وقد كان هذان الشابان يريدان تعلم العربية الدارجة. حقيقةً في داخلي لم يرقْ لي الأمرُ كثيرًا، فأنا لم أعتدْ دخول هذا النوع من المقاهي والذي أعلمُ أنَّ فيه لونًا قبيحًا من الاختلاط لا يطيقه قلبي ولا وجداني، فذاكرتي تحتفظ بذكريات سيئة عن أماكن كتلك عرفتُها حين كنتُ مغتربًا، كنتُ قد ابتعدتُ عنها لهول ما تفعله بالقلب، من تخدير لوازع التقوى والورع، ولكنَّ شيئًا ما في داخلي جعلني أزحفُ نحو ذلك المقهى بخطى بطيئة وفي النفس فضولٌ يدفعني له لأعرف كيف تدور عجلة حياة هذا المكان ومن هم روَّاده في بلدٍ مثل بلدي فلسطين وفي مدينة كانت قلعة من قلاع الدين والتقوى تُدعى نابُلْس.
لعلَّ أكثر ما آلمني تلك المحجبة بين الحضور، ولكنني أيقنتُ أنَّ هذا ليس حقيقة جوهر الحجاب فحسب، فهو ستر القلب قبل ستر الجسد، فمن ستر جسده دون قلبه فأنّى له أن يذوق طعم الستر والعفاف ولو لبس ثوبه؟ |
وصلتُ لذلك المقهى بجانب الجامعة لأجد صديقي ورفيقَيْه في انتظاري، وحين دخلت وكأن شيئًا جثم على صدري، أحسستُ بضيقٍ شديد، شريطٌ من الذكريات المؤلمة البائسة التي أحتفظُ بها عن هذا المكان مرَّ أمامي سريعًا، وكأنَّه يقول لي: لا تدخل! كانت ألسنة الدخان تتصاعد من “أراجيل” الجالسين وكأنه ضباب لندن، كان صوتُ الأغاني مرتفعًا نسبيًا، يسدُّ مسامع الجُلَّاس عن كلِّ شيء دونه، شبابٌ وشاباتٌ في مجلسٍ لمجالس الشيطان أقرب، بل كنتُ أعلمُ أنَّه كان مقيمًا بين الحضور فرِحًا بصنيعه ومبتهجًا لما كان عليه أهلُ ذلك المكان من ضياع وضلالة، بحجاب ومن دون حجاب، ذكورٌ وأشباه ذكور، كانوا جميعًا في ذلك المكان، خليطٌ من كل شيء.
ولعلَّ أكثر ما آلمني تلك المحجبة بين الحضور، وعندما أقول محجبة فأنا لا أتحدث عن فتاة تضع على رأسها غطاءً أقربُ ما يكون إلى صرعة من صرعات الموضة، بل أتحدث عن ححاب كامل فتاة تغطي كلَّ ما فرض الله عليها سترَه، ماذا تفعلُ من يُفترضُ بها أن تحترم لباس التقوى في مكانٍ كهذا؟! ولكنني أيقنتُ أنَّ هذا ليس حقيقة جوهر الحجاب فحسب، فهو ستر القلب قبل ستر الجسد، فمن ستر جسده دون قلبه فأنّى له أن يذوق طعم الستر والعفاف ولو لبس ثوبه؟! ولكنْ ما زال يؤلمني أنَّ بعض من يرتدين الحجاب لا يمتثلن لخُلقه، فعلى الحجاب أن يضمن سلامة القلب قبل سلامة الجسد، أما من كان في قلبها ولو شيء من مرض أو شكٍّ أو إعراض، فما زال بوسعي أن أسأل الله لها السلامة، وأن ترى في الحجاب قمة الرقي والأخلاق بل قمة السعادة.
حاولتُ التجاهلَ كثيرًا ورحتُ أصرف نظري عن ذلك المنظر تلقاء الجالسين معي بعد أن لاحظوا تفكيري وانشغالي بأمر ما، كان الحزنُ واضحًا على محيَّاي، ويبدو أن سنوات غربتي لم تُفلح في إخفاء حزني وضعفي تجاه ما قصَّرْتُ فيه يومًا ولكنني على الأقلّ كنتُ مقتنعًا بخطئه، لأفجع بمن يدافعُ عنه ويبرر لنفسه ذلك. تناسيتُ ورحتُ أتبادل أطراف الحديث مع رفقتي تلك، تحدثنا عن الثقافة والمجتمع والإسلام، وعرضتُ وجهة نظري لمظاهر الانفتاح والتعارف وخصوصًا بين الجنسين، كان الحديثُ غريبًا لمن حولنا من الطاولات القريبة، وحين كنتُ أشرح للأجنبيين رفضي للجلوس بأماكن كهذه، ورفض أي تبرير لوجود فتياتٍ فيها، كنتُ أرى وجوهًا أعرفها، وكم تملكني الحزن حينذاك!
كيف تنتحر الأنوثة في أماكن كهذه، كيف لفتيات أُعطين الثقة والأمان ليستبدلنَ ثوب الحياء بثوب البؤس والشقاء، بضحكاتٍ وقهقهات، بلعب الأوراق وتربيتٍ على الأكتاف تتبادله مع شابٍ يجلس جانبها، بسجائر وأرجيلة، بكل شيءٍ عدا الأنوثة، فأي أنوثة تلك التي لا تحفظ على الفتاة عفتها وطهرها، عفةٌ كعفة مريم التي نطق طُهرها: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا).
فتياتُ قرآنٍ وعقيدة، من حفيدات عائشة رضي الله عنها وحفيدات ابنة شعيب عليه السلام، لم تُبهرهنَّ صرعات الموضة ولا شاشات الوهم والخداع، مصاحف يمشين على الأرض، تجمَّلْنَ بخُلق القرآن وتعطَّرن من طيب هدْي النبوة |
كنتُ مستفرقًا أشرح للأجنبيين رؤية الإسلام حول أماكن كهذه، ولِمَ نرفض هذه الثقافة رفضًا قاطعًا، وكم أحببتُ تقبُّلَهما وتأدُّبَهما واحترامَ كل ما قلت، وقد كانا متفقيْنِ معي في كثير ممّا قلت، حتى أن معنى الأنوثة لا يختلفُ كثيرًا من وجهات نظرنا، وكيف له أن يختلف كثيرًا! فتلك فطرةٌ أودعها الله فينا تبقى سليمةً ما دامتْ قلوبنا سليمة.
مرَّتْ نصفُ ساعة حتى آثرتُ الخروج، فقد كان قلبي يتقطُّع من الداخل ولا يستطيعُ مع ذلك المكان صبرًا. كان منظرًا بشعًا بحقّ، هل هذه حقًّا حرية الأنثى أم أنَّها حرية الوصول إلى الأنثى، أليست الأنوثة تعني الوقار والحياء، ألم تتحدث ابنة شعيب لموسى عليهما السلام ولكن كانت الحاجة والضرورة من تدفعها وكان الحياء عنوانًا: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ). خرجتُ وكان لساني يلهجُ بالدعاء: يا رب ثباتًا يا رب ثباتًا، اللهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
ركبتُ سيارة الأجرة ومضيتُ للبيت أفكر بيومي ذلك، ثمَّ تسلّلت ابتسامةٌ لا أدري منشأها لترتسم على محيّاي تذكِّرني كذلك بفتياتٍ حفظنَ تلك الأنوثة بطهرها ونقائها، فتياتُ قرآنٍ وعقيدة، من حفيدات عائشة رضي الله عنها وحفيدات ابنة شعيب عليه السلام، لم تُبهرهنَّ صرعات الموضة ولا شاشات الوهم والخداع، مصاحف يمشين على الأرض، تجمَّلْنَ بخُلق القرآن وتعطَّرن من طيب هدْي النبوة وتوشَّحن بعقيدةٍ غرَّاء، مشاعلُ للإيمان، هؤلاء لم تسرق أنوثتَهُنَّ مقاهٍ ولا جامعات ولا حفلات، حفظنَ أنوثتهنَّ وتعهَّدنَ بها لتكون تاجًا على رؤوسهنّ أسميْنَهُ تاج الوقار، فما أجمل أنْ يزدان الخلق الطيب بالحياء! وما أجمل أن يأخذ الحياء بمجامع حركة وسكون تلك الفتاة المصون والمرأة الماجدة!