(أحمد عمر – موقع المدن) ستة ذئاب في شقة
كنا نجهل أننا سنقيم مع ستة ذئاب.
اتصلت بالسيد جواد، وأخبرته أني حصلت على رقمه من أبي كردو، فرحب بي، وأخبرني أنه سينتظر مكالمتي حال وصولي إلى أثينا، أبلغته أن معي صديقاً، فرحب بي وبصديقي، ما دمنا وصية صاحبه أبي كردو. في أثينا كان ينتظرنا. وجه جواد القفقاسي الصارم خالٍ من المشاعر، لكنه يوحي بالثقة والخبرة، أخبرنا أنه سيستضيفنا في بيته لحين موعد السفر. كان واضحاً ومباشراً: الأجرة هي أربعة آلاف وخمسمائة يورو للنفر، وقد نفرنا من سوريا خفافاً وثقالاً مولّين، والنفر أحسن من تعبير الراس الذي يستخدم للماشية والفرسان أيضاً، واعتذر لنا من غير حلفان، أن المال، سيذهب كله إلى الشرطة الإغريقية، والطيار، والمناوبين في المطار، ولن ينال منها سوى بعض القروش، وأنّ هذا سعر خاص وكريم خصنا به، وفيه حسم طيب، فأبو كردو له فضل عليه. ركبنا سيارته، وأخبرنا أنه سيدعونا إلى ضيافته في أحد المطاعم القريبة من بيته، ولم نكن نعلم أنه يربي في شقته، في الطابق الرابع ستة ذئاب متوحشة!
انتابتنا مشاعر الدهشة التي تنتاب زائر واحدة من أقدم العواصم في العالم، قبل ساعات، كنا في عاصمة التوحيد إسطنبول، ثم صرنا في عاصمة بلاد الآلهة الكثيرة، طمأننا أن المطعم تركي، واللحم حلال، وأن السفر سيكون قريباً، فطياره، أي الطيار الذي يتعاقد معه على تهريب النازحين إلى ديار ميركل في إجازة، أو لعله مريض. بعد الطعام دعانا إلى بيته، فلا بد أننا متعبان من السفر، فأخبرناه أن السفر متعب حقاً وفيه شقة، وهو قطعة من العذاب، لكن القلق عذاب أكبر، فقد اختلسنا الرحلة، واتخذ الحوت سبيله في البحر سربا، وركبنا زورقاً سريعاً في الليل، وكأننا هاربان من سجن، أو في سباق قوارب نفاثة.
وصلنا شقته، وكشف لنا ضاحكاً أن الأزمة الاقتصادية التي أصيبت بها اليونان سببها هو وأهالي قريته جوجيان، وكان قد نزح من سوريا قبل سنوات، إثر سقوط بغداد، بجواز عراقي، وكانت الأمور حسنة مثل الليرة، وكانت الليرة يوماً يضرب بها المثل في الحسن والجمال، وما أهينت إلا من لعنة صورة الرئيس، التي أودت بها إلى الهاوية وساءت مرتفقا.
إقرأ أيضاً: محكمة تقضي بسجن 3 أوكرانيين بتهمة محاولة تهريب 51 سوريًا إلى اليونان
كان الاحتيال سهلاً في اليونان، استطاع هو وأهالي قريته جميعاً، الذين لحقوا به، وكلهم أرحام وقرابات، اقتراض مبالغ هائلة من البنوك اليونانية، والعراقيون كانوا قد سبقوه، وكل قرض يبلغ خمساً وستين ألف يورو، فاشترى شقة مع ابن خالته، ثم خاتل ابن واستولى على الشقة، وغيّر اسمه، والشرطة ترتشي بسهولة، فالفساد والسفاد هنا شائعان، ويسيران، سقطت طروادة بخدعة الحصان، وسقطت عواصم خمس دول عربية أو كثر بخدعة الرئيس الحمار.
وفي شقته، التي سنصل إليها، سنجد زكائب من الجوزات المزورة مبعثرة فوق السرير، وتحت السرير، وفي الممرات.. أخبرنا، وهو قليل الكلام، إنه يستطيع بسهولة تهريبنا إلى بلاد بعيدة وكثيرة، لكننا نريد ديار ميركل، لا نريد عنها بديلا، وكأنها أمنا التي أنجبتنا، في لحظة ضعف، في فلم هندي، ونريد العودة إليها لمّا للشمل الذي مزقته الأقدار. الجميع يريد ألمانيا، إنها حمّى ميركل.
إقرأ أيضاً : ألمانيا: محاكمة شقيقين سوريين بتهمة اغتصاب فتاة قاصر
صعدنا الدرج، فالمصعد معطل، اليونان هي أرومة أوروبا، بل هي مكّتها المقدسة، لكن مزاجها شرقي، رنّ الجرس، فسمعنا أصوات جري وهرولة، فُتح الباب فوجدنا خمس صبايا، مشرقات من النضارة والجمال، والعري المفترس، سيقان وأفخاذ و نهود لامعة السفوح وبارقة، يكاد سنا برقها يذهب بالأبصار، لحقت بهم السادسة، واستقبلنه عند الباب، كما تستقبل الهررة الجائعة صاحبها العائد بعد غياب.
المفاجأة لم تكن في البال، عرّفنا بهن: باولا، سوكي، فيث، ماريانا، ميلينا، وانجلينا، ودعانا للدخول، ودلّنا على غرفتنا، ونحن بحاحة إلى هدنة تعارف، نتلمس فيه دربنا الوعر من سطوع الجمال، ثم انصرف إلى إحداهن، انجلينا، وبدأ يوبخها ويغلظ عليها، ثم غضب، وراح يضربها لكماً ورفساً، وانهمك في إيذائها، يلكم نهديها الصغيرين، وهي مستسلمة مثل كيس الملاكمة، تتطوح، وتتقي ضرباته، وتبكي، وتعلن التوبة، صوتها المذنب كان ينوح، وترتد إليه، ونحن واقفان كأننا نشهد عرض مصارعة حرة من طرف واحد.
استمرت حفلة الضرب دقائق، وجدناها دهراً، وحبسنا الأنفاس، كانت زميلات انجلينا صامتات، بل إن بعضهن استمرين في أعمالهن، ولا عمل لهن سوى هواتفهن. لم يكن ضرباً عادياً، كان مبرحاً، كالذي نراه في أفلام المافيا، كان ضرباً يؤدي إلى القتل، نظرت إلى أبي النور، كان يحبس أنفاسه مثلي، تكومت انجلينا على الأرض أنقاضاً من اللحم والعظم، ولم تكن ترتدي سوى بضع خرق ملونة، يمكن طيها، وحشرها في الجيب، وعلى جسمها الأبيض تشكلت بحيرات حمراء ما لبثت أن تحولت إلى كدمات من السواد والزرقة، سكن غضب جواد أخيراً، وارتوى من نقمة الغيظ. لكنه ظل يشتمها بلغة أرسطوطاليس وسوفوكليس.
ماذا نفعل، فنحن أسرى، ولا نعرف أحداً في أثينا، وتذكرت شهادات المعارف، والسجناء السياسيين، الذين خرجوا من سجون الأسد، ورووا لنا الفظائع، وأن أقسى ما لاقوه من أهوال، لم يكن التعذيب، وإنما سماع أنّات وآهات النساء والأطفال، وعجزهم عن تقديم العون لهم.
لم نفعل شيئاً لأنجلينا، كانت مروءتنا قد ماتت، وكان نظام الأسد قد اجتهد في قتل المروءة في سوريا قتلاً.
التفت إلينا جواد واعتذر، وقال: إنها تستحق العقاب، ثم خرج، بعدما دعانا إلى اعتبار الشقة شقتنا. ولم نعرف تهمة انجلينا. سقطنا من الإعياء ومن الضرب الذي نالنا، كما نالها، نتخبط في الأكم وفي الوهد.
عادت الحسناوات إلى مقصوراتهن، ولم يبق مع انجلينا المجدلية سوى الأفريقية السمراء فيث، تحاول إسعافها ومواساتها، كان محمد نور مذهولاً من أمرين: الأول أن يهان كل ذلك الجمال، الذي لم يره قط، ويضرب كل ذلك الضرب، وهنا لا بد من التعريف به، هو صديق تعرفت به حديثاً، عمره إحدى وثلاثون سنة، والسنة غير العام، أعزب، لم يعرف أنثى قط، عفيف وتقي وورع جداً، من أسرة صالحة، ربتّه على الصدق والإحسان، والأخلاق الحميدة، وهو هيّن ليّن سهل قريب. كان يستحق أن يعشق من أي صبية.
كان واقفاً مذهولاً، لا يزال ينظر إلى الحسناء المضروبة ضرب البغال، وقد برز نهدها الصغير من القميص