(متابعة – مرآة سوريا) في الشهور الأخيرة ، تتكرر على مسامعنا فكرة أن الحرب السورية في طريقها إلى الأفول؛ حتى صار الأمر أقرب إلى«كليشيه» ممل، لكن بالرغم من ذلك، لم يكن من الممكن أبدًا اعتبار ذلك الزعم حقيقة مطلقة، هذا ما يعبر عنه الباحث في الشؤون الدولية، جوناثان سباير، في مقاله لصحيفة «فورين بوليسي».
ويروي سباير كيف أكد مسؤولون أمريكيون مؤخرًا نية واشنطن الاحتفاظ – وإلى أجل غير مسمى – بتواجد فعال في ما يقرب من 28% من الأراضي السورية، في شراكة مع «قوات سوريا الديمقراطية»، التي يقودها الأكراد، لكن تلك الخطط لا تزال تلقى مقاومة من الفاعلين الرئيسين الآخرين في تلك البلاد التي مزقتها الحرب، ويشمل ذلك بالطبع تركيا، حليف أمريكا القديم، وهي التي دشنت قبل أيام «عملية غصن الزيتون»، في مقاطعة عفرين الواقعة تحت السيطرة الكردية شمال غربي سوريا.
وبالتوازي، فإن قوات النظام الذي يقوده بشار الأسد، وفيما تشن هجومها على المعارضين العرب السنة في الجنوب، فإنها تسعى إلى إكمال سيطرتها على مطار أبوالضهور العسكري في محافظة إدلب الشمالية.
لا يؤدي نزيف الدماء هذا إلى إفساد خطط واشنطن على الأرض السورية فحسب، بل إنه يثير مزيد من الأسئلة حول مستقبل البلاد، فحتي لو قادت ديناميكيات الحرب الصراعات المتداخلة في سوريا إلى نهاية ما، فإن ذلك لا يعني أن ثمة مستقبلًا سلميًا ومنظّمًا ينتظر السوريين، بل يعني ببساطة أن ثمة صراعات جديدة سوف تولد من رحم القديمة.
الأسد باقٍ.. و«داعش» فانية وتتبدد
وفقًا لسباير، فمنذ منتصف 2014 ثمة حربان متوازيتان تدور رحاها على الأرض السورية، الحرب «الأصلية» بين نظام الأسد والثوار العرب السنة، وهي تتركز في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية غربي البلاد. أما الحرب الثانية فتدور بين «الدولة الإسلامية (داعش)»، والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
كلتا الحربين الآن في طريقهما إلى الانتهاء. حُسمت المعركة الأولى لصالح الأسد في 30 سبتمبر (أيلول) 2015، اليوم الذي احتضنت فيه سماء سوريا المقاتلات الروسية التي هبت لنجدته. فيما افتقد الثوار إلى مضادات طائرات فعالة، باستثناء وسائل بدائية للغاية، فوقفوا مكتوفي الأيدي أمام مزيج من القوة الروسية في الجو، والكتائب المدعومة إيرانيًا على الأرض.
لم يعد بقاء النظام محل شك الآن، لكن «كينونته» اليوم تختلف جذريًا عما كان عليه الأمر وقت اندلاع الاحتجاجات ضد الأسد في صيف العام 2011، لم يعد النظام في دمشق قادرًا على إملاء أوامره على الجميع كما كان الأمر قبل سبع سنوات، بل إن عليه – بدلًا عن ذلك – إرضاء أهواء تلك القوى التي ضمنت له البقاء.
تمثل أحداث الأيام السابقة في عفرين مثالًا واضحًا على ذلك. أبدى الأسد نفسه رفضًا قاطعًا للتدخل التركي قائلًا: «لا يمكن فصل هذا العدوان التركي الوحشي على مدينة عفرين السورية عن سياسة النظام التركي منذ اليوم الأول للأزمة السورية، والتي بنيت بشكل أساسي على دعم الإرهاب والمنظمات الإرهابية»، كما أبلغ «فيصل مقداد» نائب وزير خارجية النظام المراسلين في دمشق أن القوات السورية «جاهزة لتدمير الأهداف التركية الجوية في سماء الجمهورية العربية السورية».
غير أن رعاة الأسد الروس كانوا قد كونوا وجهة نظر مختلفة بخصوص العملية التركية، وقد انسحب العسكريون الروس من المقاطعة الكردية قبل بداية العمليات. وبالتأكيد فإن الطيران التركي الذي يحلق في سماء عفرين، مستهدفًا المواقع الكردية في المنطقة، ما كان ليعبر الحدود بدون إذن روسيا، التي تحتفظ في سوريا ببطاريات صواريخ الدفاع الجوي«إس-400»، والتي تضمن لموسكو إمكانية تطهير الأجواء السورية من أي وجود غير مرغوب فيها. وقد كان على الحكومة السورية أن تنصاع لرغبات صانعي القرار الحقيقيين، وألا تنساق وراء تهديداتها باستهداف المقاتلات التركية.
أما فصائل المعارضة، فهي تكتفي الآن بالقتال في سبيل البقاء، وتلك التي تتخذ من سوريا مقرًا لها، أو تتمركز بالقرب من الحدود التركية لا تجد أمامها من خيار إلا العمل كوكلاء للطموحات التركية (حتى هيئة تحرير الشام المرتبطة بالقاعدة، والتي تسيطر على محافظة إدلب تحتفظ بـ«تنسيق ناعم» مع تركيا، وقد وجدت ذلك ضروريًا لتجنب الغارات الروسية).
فيما يلعب الثوار في الجنوب الدور نفسه لصالح الرعاة في الأردن والولايات المتحدة وإسرائيل.
ويبدو أن الحرب ضد دولة «الخلافة الزائفة» في طريقها للنهاية هي الأخرى، بحسب سباير، صحيح أن التنظيم لم يُدمّر بشكل كامل، ولا يزال يحتفظ بسيطرة في صحراء دير الزور، كما لا يزال قادرًا على مفاجأة أعدائه بهجمات مضادة، إلا أنه فقد الغالبية الساحقة من أراضيه. وأصبح من الواضح أن التنظيم عاد إلى ما كان عليه قبل إعلان الخلافة في يونيو (حزيران) 2014.
خريطة الحرب الجديدة في سوريا
إذًا فما الذي تعنيه هذه التطورات بالنسبة للمسار المحتمل للأحداث في سوريا في الفترة القادمة؟
يرى التقرير أن هناك ثلاثة «لاعبين» رئيسين في سوريا اليوم:
1) معسكر «النظام – الإيرانيين وحلفائهم – الروس»، وهو يسيطر على ما يقارب نصف مساحة البلاد، ومعظم كتلتها السكانية.
2) قوات سوريا الديمقراطية، ذات الغالبية الكردية، والمدعومة أمريكيًا، وهي تسيطر على المناطق الغنية بالنفط جنوبي دير الزور، ومساحة كبيرة من أجود الأرض الزراعية.
3) التحالف بين تركيا – وإلى حد ما قطر – والمجموعات الإسلامية السنية والمتمردين الجهاديين شمال غربي سوريا.
لكن هذه «المعسكرات» الشاسعة ليست هياكل مغلقة على نفسها، إذ إننا بصدد معادلة يحتفظ فيها الأعضاء المختلفون بعلاقات خاصة مع عناصر معينة في المعسكر المنافس. تركيا وأمريكا مثلًا هما – ظاهريًا – حليفان وثيقان في الناتو، بالرغم من أن واشنطن تواجه معارضة من قبل بعض المجموعات الجهادية المتعاونة مع تركيا.
وإذا كان الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» جادًا في تصريحاته بخصوص نية بلاده مهاجمة مدينة «منبج»، فإن أنقرة سوف تكون بصدد مسار تصادمي مع مصالح واشنطن. وعلى جانب آخر، يحتفظ الأكراد بعلاقات مع كل من روسيا ونظام الأسد، بالرغم من أنهم يديرون – بحكم الأمر الواقع – منطقة مستقلة بدعم من الولايات المتحدة.
أما إسرائيل، فهي وإن كانت تصطف مع الولايات المتحدة، فإنها تراهن على علاقاتها الفاعلة مع روسيا لضمان قدرتها على العمل ضد النظام والأهداف المرتبطة بإيران جنوبي سوريا، وإن يكن هؤلاء حلفاء لروسيا في الحرب. وهكذا دواليك.
ويختتم سباير مقاله بأن التنافسات الجديدة في سوريا لا تنبع من الديناميكيات السورية في الداخل، بل من المصالح المتضاربة للقوى الخارجية التي تشق طريقها بين الأطلال السورية، الأتراك في مواجهة الكُرد، إسرائيل في مواجهة إيران ووكلائها، والولايات المتحدة ضد إيران، واليوم تركيا في تحديها لواشنطن. تسعى كل قوة هنا إلى تحقيق امتلاك التفوق على الأخرى، ولذلك فحتى لو خمدت الحرب القديمة في سوريا، فإن الحروب والصراعات لن تغادر المنطقة قريبًا. مرحبًا بكم في «سوريا الجديدة».