الله الذي فرض على النساء الحجاب، هو الله عز وجل ذاته الذي جعل الصلاة والصوم والأمانة من فروض الإسلام وأركانه..
لكننا حين ننسلّ من خلواتنا، ويستقبل كلٌ منا آلافَ العيون المترصدة، لا علامات تظهر علينا فتفضح تارك الصلاة، ولا رائحة تفوح من أفواه الكاذبين، ولا إشارات تبعثها عيون خائني الحشمة والأمانة.. وحدها الفتاة حينما تقرر يوماً أن تترك حجابها تتحول إلى قصة على شفاه المقصّرين..
قال لهم المسيح عليه السلام وهم يجرجون خلفهم امرأة متلبّسة بذنب: “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.. فنكصت أيديهم وتراجعوا.. أما نحن وليس بين ظهرانينا نبي، فنطلق عبارات السخرية والشماتة بمن “سقطت” على الطريق، وننسى أن نختبر ثبات أقدامنا على الطريق ذاته!
ازدادت في السنوات الأخيرة حالات خلع الحجاب في أوساط فتيات يُشهد لهن برفعة الخلق والثقافة والنشأة في بيوت محافظة وملتزمة دينياً، ولكل واحدة منهن أسبابها الخاصة التي لن يتسع المقام لنقاشها..
لكنني مع كل جدل يشتعل بعد حوادث خلع الحجاب، أتساءل عن جدوى كل الكلام الذي يقال عمّن خلعت حجابها.. وأستغرب لماذا يحصر الدعاة ورجال الدين نقاشاتهم ومواعظهم على ضرورة احتواء صاحبة هذا القرار وتفهمها فقط؟ ويسكتون عن أساس المشكلة، وهي لماذا تخلع الفتيات الحجاب بكثافة؟
كثير من النقاشات التي تدور ابتعدت عن الجوهر، وركزت على معالجة وتجميل الأعراض.. مع أن المنطق ينفي وجود مرض يُشفى بأقراص المسكّنات..
عندما تصبح المرأة متعلمة ومثقفة، وتثبت نفسها في مجتمعات حرة، وتفرض احترامها كإنسان ذو فردانية وشخصية مستقلة، تكتشف أنه لا “ذئاب بشرية” في هذا العالم من الممكن أن تهددها |
وقد استطاعت مدرسة التجديد الديني أخيراً النأي بنفسها عن الخوض في جوقة النميمة والتشهير ضد النساء في مواضيع الحجاب والحشمة، وصارت تدعو إلى الطبطبة الناعمة على من تخلع حجابها، لكنها في نفس الوقت عجزت عن تقديم أي شيء للفتاة المحجبة المتشككة حول جدوى الحجاب ومواصفاته، وهل هو من الدين أم من الموروث؟ ومدى مركزيته أو هامشيّته في الإسلام؟ قبل أن تنتهي رحلتها التفكّرية بقرار خلعه.
ولأن مدرسة التجديد الإسلامي متأخرة دوما بعقدين على الأقل عمّا يشغل الشباب ويؤرقهم، فهي ما زالت عالقة في أجواء الثمانينات والتسعينات حين كانت الصحوة الدينية في أوجها، وغالبية الفتيات تضعن الحجاب منذ المراحل الإبتدائية، وتنظرن باستعلاء ساذج لغير المحجبات.. فكان لابدّ من خطاب ينبّه إلى عدم الاغترار بالحجاب او احتكاره للعفة، وضرورة احتواء غير المحجبة وتفهم قرارها.
أما اليوم ونحن نعيش في ظروف معكوسة يسيطر عليها الهوس بصناعة الجمال والصورة، وهيمنة المعايير الجاهزة كوصفة لتحقيق الثقافة والانعتاق الفكري، وانفتاح المحجبات على مجتمعات أخرى غير مسلمة أو لا ينتشر فيها الحجاب أو تحاربه، ومع تفاقم الأدلجة في المجتمعات المسلمة وظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب، عادت أزمة الحجاب إلى الواجهة، وتحوّل الحجاب من عبادة بين الإنسان وربه إلى لافتة تضطر المحجبة لأن ترفعها وتدفع ثمنها أينما ذهبت.
وما من داعٍ لأن ينكر أحدنا أن الحجاب قد أصبح تحدٍ صعب تواجهه الكثير من الفتيات حين تسافر أو تبحث عن فرصة للتعليم العالي، أو وظيفة مميزة، أو تحتك بالإعلام وأوساط التأثير الاجتماعي، أو حتى حين تريد مراهقة صغيرة أن لا تجد نفسها غريبة ومختلفة عن محيطها، وهو شعور فطري لا يتوجّب قمعه أو توبيخه..
كل هذه التحديات لا يناقشها منظّرو المدرسة الدينية، ولا يقدّمون حلولاً عملية لها، أو حتى وجبات ثقافية وروحية تقوّي المحجبات على مواجهتها.. فهي تحديات يخفق الرجال في إدراكها ووضعها على طاولة البحث، فهوية الرجل المسلم المحايدة تساعده على الذوبان السلس في أي مجتمع يقصده على عكس المحجبات.
والحقيقة أنه على مدار تاريخنا الإسلامي، كان الفقه وتجديد الخطاب الديني قضايا يهيمن عليها الرجال، ليس فقط باحتكارهم التنظير والتأليف فيها، إنما بإسباغ نظرة ذكورية عليها تتجاهل ما تفكر به النساء أو تشعره، بما فيها قضايا المرأة والحجاب.. وبذلك أصبحت سرديات جاهلية مثل فلسفة “الحلوى المغلفة والمكشوفة” تشكّل التصور العام للحجاب وغايته في الخطاب الإسلامي إلى اليوم.
ويوجّه الدعاة خطابهم للذكور أكثر مما يخاطبون الإناث في سرديات الحجاب، ويقدّمون روايات أقرب إلى إشعال الحميّة والغيرة الذكورية للتحفيز عليه من قبيل “هل ترضى لزوجتك أو أختك أن يتأمّلها الرجال”، وهل ترضى “أن تنهشها الذئاب البشرية”؟!
وعندما تصبح المرأة متعلمة ومثقفة، وتثبت نفسها في مجتمعات حرة، وتفرض احترامها كإنسان ذو فردانية وشخصية مستقلة، تكتشف أنه لا “ذئاب بشرية” في هذا العالم من الممكن أن تهددها، ولا معنى لأن تكون تلك الحلوى المغلفة في زاوية الصندوق.. فيكون قرارها الأول هو الثورة على الموروث الديني المترهل الذي يشدّها نحو الأسفل.. فتخلع الحجاب!
يعلق عدد ليس بالقليل من المحجبات في هذه الفوهة، وتتأرجح أفكارهن وخططهن ما بين الخلع والاستمرار..
وإن كان من الجميل أن ننشر ثقافة التسامح والتقبل لقرارات الجميع، فإنه من المؤسف أن يتأخر الخطاب الديني عن هموم الناس، وأن يُساعد بعد تأخر الوقت، ويحتوي بعد فوات الأوان.
مدونات الجزيرة