أبو محمد.. يروي من قنّ للدجاج حكايته المؤلمة و يتساءل: هل الانتحار حلال؟ – مرآة سوريا

لم يتخيل أبو محمد أن تكون نهايته و نهاية أسرته مرسومة بأدوات دولية مسيحية إسلامية شيعية علوية، اختلفت في كلّ شيء و اتفقت على رميه في مستنقع من الدماء وحيدًا يتلقى جسده السهم تلو الآخر، في مناطق يقال عنها إنها “محررة”.

أبو محمد رجل ستينيّ، كان تاجرًا صغيرًا يدير دكانًا فيه 3 آلات لصنع الصابون في حلب، و دكانه هذا كان مصدر رزق لعائلته و عائلة أخيه المتوفّى، يجعل حالته المعيشية “مستورة”، و لم يكن في حياته بموضع السائل الطالب.

ساهم أبو محمد في الحراك الشعبي المناهض للأسد، و بقي في صف المدنيين، و تعرض كما القليل من أبناء مدينته، للحصار و التجويع، و فقد اثنين من أبنائه، و العشرات من أبناء عائلته و أقاربه، و الآن هو وحيد يقطن “قنًّا” على الطريق الواصل بين ريف حلب الغربي و ريف إدلب الشمالي.

قصف منزل أبي محمد و استشهد بالقصف اثنان من أبنائه، و أصيبت زوجته إصابة بالغة بترت على إثرها قدمها و يدها اليسرتين، ثم انتقل إلى منزل آخر في حي المشهد، تم قصفه أيضًا و أصيب بجروح أدت إلى استئصال كليته اليمنى.

“بعد أن زجونا في الباصات الخضر، تلقفنا شباب طيبون في منطقة أورم الصغرى، ثم ذهبت مع زوجتي و ابنتي و عائلتها إلى قرية باتبو حيث أقرباء زوج ابنتي، أحسنوا معاملتنا رغم حالتهم المزرية”، يقول أبو محمد في حديث مطول مع مرآة سوريا.

ضاقت على أبي محمد الدنيا بما رحبت في باتبو، إحساسه بالعجز و الحاجة، و رزوحه تحت فاقة الفقر، قضّا مضجعه فلا ليله ليل و لا نهاره نهار، و زوجته إلى جانبه تطلق الأنّة بعد الأنّة، تعيش على مسكنات تمنحها على مضض المراكز الطبية المنتشرة في المناطق المحررة، لا ابن يواسي عجزه، و لا سندٌ يشكي له همّه.

وصل إلى مسامع محدثنا العجوز أنّ ميليشيا حزب الله نهبت دكانه بما فيه، و أنّ الدفاع الوطني حوّل الغرفتين اللتين سلمتا من قصف منزله إلى مستودع للمسروقات، فبات رجلًا لا يملك في الحياة سوى زوجة فقدت أطرافها، تبكي على حاله أكثر من بكائها على حالها.

يقول أبو محمد:”بدأت البحث عن أي عمل يؤمن لي قوت يومي، عمل أستطيع من خلاله أن أدفع أجرة منزل متهدم يستر عورتي، بحثت كثيرًا و عملت بالإنشاءات فخذلني عمري، و هشاشة عظامي المسنّة، إلى أن عرض عليّ أحد الأطايب أن أعمل على سيارته كسائق يوصل الطلبات بين القرى المحررة مقابل أجور نقتسمها مناصفة.

كان هذا العمل فرج لحالي، عملت مدة أسبوع و استطعت أن أدفع أجرة قنّ للدجاج الرومي، حوّله أصحابه إلى شبه غرفة، و ألحقوه ببيت للخلاء و المطبخ في ذات القن بطبيعة الحال”.

انتقل أبو محمد من زوجته إلى “منزله” الجديد، كان بالقرب من هذا المنزل عدة مقرات لفصائل مختلفة، و كانت فوضى الشباب تسيطر على تلك المنطقة، إلا أنّ أحدًا لم يؤذي أو يحسن لأبي محمد، هم في حالهم و هو في حاله.

استفاق أبو محمد قبل يومين على “خبط” على الباب المترهل، وقف و الدم قد تجمد في عروقه، و تساءل “هل وصل الشيعة إلى هنا؟ هل وصل جيش الأسد؟ هل قامت القيامة؟.

فتح أبو محمد الباب و إذ بمسلحين ملثمين، قالوا إنهم يريدون تفتيش منزله، فأوعز لهم بالدخول و هو يعلم أنّ زوجته لم ترمي عنها الحجاب منذ سنوات لا في الليل و لا في النهار، خوفًا من أي مداهمة لا يطرق فيها الباب!.

فتش الملثمون البيت خلال دقيقة، و قالوا إنهم يريدون السيارة، لم تفلح توسلات أبو محمد، و لم يفلح في إقناعهم بأنّ السيارة ليس له، و هو مجرد سائق يعمل بالأجرة، أخذوا السيارة، و قالوا إنهم من فصيل “كزا”، و انصرفوا.

يقول أبو محمد و قد امتلأت عيونه دمعًا:”شو أعمل؟ راح كل شي.. ما ضل لا ولد و لا بيت.. عندي هالعجوز مخليتني اتمسك بالحياة.. يا ريت الانتحار يكون حلال.. ياريت”.

أبو محمد فقد أبناءه بقصف الأسد، و سلب الشيعة دكانه، و ميليشيا الدفاع الوطني وضعوا أيديهم على بقايا منزله، و لم تستوعبه منطقة تحوي من الإمارات و الفصائل الإسلامية و كتائب الحر، و عشرات من المنظمات الإغاثية، فخسر حتى ما يؤمن له ثمن طعامه و أجرة القن التي يلملم فيه آخر النهار أحزانه مع “بقايا زوجته.

أبو محمد ليس إلا صفحة في رواية ألم تطول، تخطها دماء الأبرياء المسفوكة بسلاح عاشق للكرسي، و نماذج مصغرة عنه، انتشرت في كل المناطق المحررة، لا غلاف لهذه الرواية، و لا تحوي صفحاتها أية أرقام، لا نهاية لها و لا فهرس، فيها فقط كمّ لا يتسع له الكون من الألم و العجز و القهر.

أضف تعليق