سيطرت ميليشيات حزب الله اللبناني على مدينة القصير و ريفها الزراعي الخصب غرب سوريا، أوائل شهر حزيران/يونيو 2013، بعد معركة شهيرة مع قوات المعارضة السورية التي أجبرت نهاية على الانسحاب تجاه مناطق مختلفة أبرزها القلمون و ريف حماه الشرقي.
كانت معركة القصير التي خلّفت آلاف القتلى و الجرحى، المعركة الأولى في سوريا، التي يزجّ فيها حزب الله بكامل قوته العسكرية، و كما خسرت المعارضة عددًا كبيرًا من قادتها ومقاتليها في تلك المعركة، تكبّد الحزب الذي يُعتبر زاويتا شوكة محور الممانعة برأسه نظام الأسد، خسائر كبيرة اشترى على إثرها أراضٍ إضافية لتوسيع مقابره “المقدسة” في الضاحية و البقاع.
و دلّت مجريات الأحداث بعد سيطرة الحزب على المنطقة، على أنّ اتفاقًا مسبقًا عقده الأسد مع الحزب يقضي بأن يكون الأخير وحده المسيطر على المنطقة بعد طرد المعارضة منها، ولاحقًا تولّى الحزب المسؤوليات الأمنية و العسكرية و الاقتصادية و الاجتماعية في تلك المنطقة، دون أن يكون لنظام الأسد أي تواجد يذكر إلا من مختار هنا أو نشاط مدنيّ إعلاميّ هناك.
حزب الله رفع إجراءاته الأمنية في القصير و محيطها، فأنشأ عشرات النقاط الأمنية داخلها و على أطرافها. رفع السواتر و نشر الآليات و نقاط الحراسة و المراقبة، و بنى المعسكرات لتدريب مقاتليه، و الحسينيات لتزويدهم بـ “حاجاتهم من القداسة الشيعية”، و المصايف و المشاتي للترفيه عنهم، بعيدًا عن عيون وكالات الأنباء التي انقرضت تمامًا في مناطق سيطرة الحزب و الأسد.
ما زال أحد لا يعرف مصير مئات القتلى الذين سقطوا أثناء انسحاب المعارضة، “كان منظرًا مهيبًا.. القتلى في كل مكان، لا تستطيع أن تخطو 10 خطوات دون أن تتجاوز جثة مرمية على الأرض، الجرحى كذلك.. كانوا بالمئات، كان أنينهم يطغى تارة على أصوات القصف و الاشتباكات، و تارات يخفت بقذيفة قريبة تصم الآذان.. إنه يوم قيامة”، يقول مراسلنا الذي كان ممن شهد ذاك الانسحاب.
لكن و بحسب أخبار يتداولها العجائز النازحون الجالسون على عتبات مخيمات عرسال، فإنّ الجثث نهشتها الكلاب، و تحللت إلى أن اهترأت و غاصت ملامحها بين الأراضي الزراعية هناك.
حزب الله لم يعر تلك الجثث أية أهمية، و مضى في مشروعه “المقدس”، فبعد أن أمّن المنطقة بشكل كامل، وجد نفسه كالطفل الوحيد في منزل مليء بالحلوى، انقض ينهش من كل ما أمامه، عفش المنازل الذي سلم من الحرب تم بيعه لتجار النظام في أسواق “السنة” بمدينة حمص، و جنيت محاصيل الأشجار و الأراضي و نقلت بالشاحنات التي لمّا تتوقف حركتها عبر الحدود إلى أماكن سيطرة الحزب بلبنان، فباتت القصير برمتها مزرعة كبيرة لمقاتلي الحزب، يسرحون و يمرحون فيها كقطيع محروم، وجد نفسه في مرعى كبير أخضر.
و لأنّ حزب الله يشرعن لنفسه زراعة الحشيش، و التجارة بالمخدرات، فكان لزامًا عليه أن يستغل هذه السهول الخضراء الخصبة، التي يشقها نهر العاصي، لفوائد تتعدى جني محاصيل الزيتون و اللوز و المشمش و الكرمة، فازدهرت زراعة الحشيش أيما ازدهار، و باتت سهول الحشيش في القصير امتدادًا جغرافيًا و “إيديولوجيًا” و “قديسيًا” لتلك التي في البقاع المجاور.
بدأت الجرارات الزراعية بقلب تربة سهول القصير منذ أوائل يناير الماضي، فيما اكتنزت بعض الحقول بذور “القنب الهندي” (الحشيش)، أوائل شباط/فبراير الجاري، على أن ينثر “مزارعو الحزب” بقيتها قبل نهاية هذا الشهر، “إنهم يعملون بخبرة، يعرفون متى يقلبون التربة و أي أرض ستنتج أكثر، و يعرفون المقدار المناسب لنزول شوكة الجرار في التربة، يعرفون أين يجعلون النبات كثيفًا، و أين يجعلوه فرادى، هم ليسوا دخلاء جدد على هذه المهنة المقيتة”، يقول معلّق!.
يتم تناقل أخبار تجارة المخدرات و الحشيش التي يقوم بها حزب الله في أراضي الأرجنتين و البرازيل على الإعلام كل فترة، و تفرض جهات دولية “عقوبات اقتصادية” على رجالات للحزب مسؤولون بشكل مباشر أو غير مباشر عن هذه التجارة، إلا أنّ جهة دولية واحدة لم تذكر ما يحصل في القصير.
القصير سهول واسعة خصبة، خضراء نضرة و كأنها قطعة من سهول الجنة، تتهادى عناقيد العنب من كرماتها، و يتدلى تفاحها الصغير من أغصان أشجارها، و أما كرزها و مشمشها فعقود تتلألأ و مسابح توحّد عظمة الخالق، و للوز المنثور بغزرة على الأشجار المعمّرة حكايات كثيرة، تلقفها عبر آلاف السنين من الأجداد، أصحاب الأرض الكرام، الراقدين تحت الثرى، و الجالسين في خيام النزوح، و المنفيين في أصقاع أرض ظالمة، لا تحفظ حقّ الكريم، و لا تصون عزّته.
ليست القصير من “تحشش بصمت”، فسهولها مهما أصابها عائدة لتتنفس عبق أزهار اللوز و التفاح و المشمش و العنب، و لكنّ هذه الإنسانية “المخدرة”، كيف لها أن تستفيق بعد أنّ تشبّعت حدّ الانحلال بـ “مخدر القوانين الدولية” الزائفة؟!.